الثلاثاء، 18 مارس 2014

العلماني حين يصلي

العلماني حين يصلي
22-05-1433 06:59

العلمانية موقف ينطوي على حساسية تجاه الواقع والغيب .وتبلغ حساسيته أشدها وقتما ينساق ضرورة صوب متلازمة الواقع والغيب ,وتكامليتهما في تفسير الكون ,وأن كثافة هذه العلاقة بينهما وبين العلماني ضرب من ضروب الصلاة بحسب روحانياته.

والعلمانيون إزاء الصلاة بوصفها علاقة طبيعية داخل موازين القوى ,أو بوصفها حواراً مع الآخر ينقسمون ليس وفق صخب الأيديولوجيا ,بل وفق عقدهم التي تؤطر حضورهم في مساحة هذه العلاقات الحرجة مع الغيب, فيحاولون أن يتخذوا موقفاً وسطاً بين الغيبي والواقعي ,يدفع عنهم حرج إنكار الغيب ,وحرج الانخراط في قطيع الواقع وأفراده.

ولا أعني بحرج إنكار الغيب افتعال التحايل ,إنما الحرج أمام سيكولوجيتهم التي تضرب بعنف الجهاز العصبي ,فيركن العلماني إلى طلب الوسيلة السالفة التي تؤدي عبادة بخلفية خاصة تنتظم في تفاصيلها الإجرائية مع العادة العبادية كتفاصيل الصوم والصلاة والحج... وعندها يحقق نصف حضور غيبي روحاني ,ينال منه قسطه في الإبقاء على واقعية وجود إله يعد الطرف الأقوى ,لأن خلاف هذا سيدفع إلى دوامة من الأسئلة كالأسماك يستعصي بالإمساك بها.

وعندما يخوض العلماني في عبادته فإنه يستسلم لشروط وأركان وواجبات الصلاة مثلما يلتزم بها القروي والبدوي والطفل والعالم والأمي ,ويتلفظ سراً وجهراً بذات الكلمات ,وينكب ساجداً وينحني راكعاً في اعتراف ضمني بواقعية موازين القوى كما أسلفت.

وبعض العلمانيين المختلفين إلى دور العبادة يضمون في جنبيهم محورية مفادها أن الله قوي ,ولقوته تجليات الخلق والرزق والإحياء والإماتة والقدر والبعث... في حين أن صفات أخرى لله تبقى مثار أسئلة يحملها العلماني في سكينته إلى المسجد ,وأثناء دخوله وانهماكه في الصلاة يفعّلها العقل ويقف القلب إزائها على الحياد .

ولعل أبرز ما قد يثار في وعيه ,محاور: الرحمة, التشريع, انقطاع الوحي عن بشر هم أشد ما يكونون في حاجته أي أن التشريع المتواتر إما أن يكون ظنياً أو يقينياً تم فرضه على زمان ومكان لهما خصوصيات على عدة أصعدة أخلاقية ونفسية وثقافية ,ثم حدث التبدل في الطبائع ومستويات الوعي وتفسير الحياة وبات من الملح بحسب العلماني اجتراح أنماط من العلاقات لا ترتهن للدساتير الأولى.إن كل هذه التجاذبات الحادة تعتمل في الوعي الإدراكي والعبادي للعلماني دون أن تفضي إلى حسم ,ولكن ما يعيه العلماني ويبشر به هو عزل الديني عن السياسي أو الحياتي لعدم حسمه متلازمة الواقعي والغيبي ,وأنهما بحكم إدراكه المباشر يعيشان عزلاً واضحاً ,وفي الأقل هما متجاوران وليس شيئاً واحداً ,وعليه فالتجاور يشي بالعزل ما يعزز من أطروحة العزل في الخيارات العلمانية ,وأن التكامل بينهما لا يعني أن يفرض أحدهما (الوصاية) على الآخر .

وأحاصر الوصاية بقوسين لكثافة ورودها في المتداول العلماني لفرض العزل .ويأتي في سياقات العزل عزل المسجد جغرافياً عن الشارع ,ومجال حياة الناس وحريتهم تحت مسمى (بيت الله) وهذه إضافة تشريف في أصلها, تستدعى لدى العلماني بوصفها إضافة ملكية .وتتجلى الخطورة حين تتخذ هذه الملكية محددات العقار والسكنى ,وأن الله يتملك كما البشر ,وبالتالي فمجال الحرية والإرادة الخاصة مؤطر بحدود جغرافيتك ما بقيت في حوزتك .وتسفر هذه المعادلات المتجاذبة إلى أن ثمة حالة جغرافية ,وسلطة مكان تمارس دورها وتعزز سلطة الثقافة دينية كانت أم اجتماعية وفي سلطة المكان الاجتماعي والجغرافية خارج المسجد تتحرك طموحات ممكنة تستمد قوة الزمان من قوة المكان وتجعل سلطة المكان في مواجهة صريحة مع الغيب ولا سيما أن المكان صاخب والغيب ساكن ,فتتعزز شروط الاختلاف الحتمي في شخصيتهما ,ويحدث العزل الناعم أو الخشن أي (نجاح الخيار العلماني).

وعندما يتوضأ العلماني ويتجه للصلاة وينتظم في الصف ملتزماً الخشوع ,أو في الأقل الخشوع الجسدي ,لا ينفك عن استدعاء لحظي لسلطة المكان (بيت الله) ,منخرطاً في نشاط منظم بمحرض مدني رائده الدقة في أداء أي تكليف ,ويتم إنجازها بجفاف أو روحانية ,والأخيرة أخطر على شخصية العلماني ,لأن الروحانية تعني الصدق والإخلاص والاستمتاع وتنفيذ لركن من أركان الاستسلام(الإسلام) الخمسة .

فوضع إحدى اليدين على الأخرى وخفض الرأس والانحناء الطوعي والسجود بكسر القامة ومماسمة المكان بالعين والجبين والأنف هو مماسة لسلطة المكان أيضاً .إذاً هو يدخل في ساعة سيكولوجية ضاغطة اختارها وعليه تبعاتها في المحافظة العصية على تماسك شخصيته أمام خياراته ضد أي لون من ألوان الانفصام المحتملة, بل المفترضة أشبه ما تكون بالجلوس على كرسي كهربائي اختاره علاجاً من علةٍ ما ,ثم ينصرف عنه إلى سيكولوجية مناقضة تأخذ من وعيه وعصبه ,وتهز قواعده المنطقية, يبدل فيها أصولاً وفروعاً فقط لدمج ضرورات الواقع في ممكنات الغيب.

وهذه الانفصامية لا يتحملها الكثير منهم ,فيحسمون أمرهم إما بالانصراف كليةً عن العبادة ,أو تقديم تنازلات علنية لمصلحة الارتهان إلى مقتضيات الإيمان بالغيب ,إذ المراوحة بين سيكولوجيات قلقة ومتناقضة لا تتحملها الحالة الإنسانية ,وما تفرع من أسئلة لا يحسن السكون عن جوابها ,سيما أن العلماني تسآلي بطبعه ,ويتبع الأسئلة بإجابات ولو من قبيل ضرب الاحتمال وعدم الحسم ما يضطره إلى اتخاذ موقف يتجاوز مرض الوسطية المزعومة التي تنتهي إلى إن الملحد – بكل ارتكاسه - يفوق العلماني في الانسجام مع عقيدته ,إذ الملحد لا يؤمن بإله في حين أن العلماني يؤمن بإله عاجز ,لا يحسن أن يشرّع ,ويحسن ما هو أصعب وأدق ,وعندها تكون عبادة العلماني على الطريقة الإسلامية مماثلة لعبادة العلماني على الطريقة المسيحية والبوذية والهندوسية ,بل هؤلاء أفضل منه ,لأنهم لم ينسبوا إلى معبوديهم نقصاً تشريعياً ,حيث لم يدعوا أن آلهتهم مشرعة ,في حين أن العلماني المتعبد على الطريقة الإسلامية تعامل مع دستور مكتمل, ولم يرحب به ,وعدم ترحيبه ليس سبباً مزاجياً بل عقلياً وعاطفياً ,وهنا يبدو الانفصام لديه أكثر من أولئك إذا افترضنا أن أولئك يعانون انفصاماً
وقد يسأل العلماني نفسه كيف له أن يرفض تطبيق آية لا يبيح لنفسه قراءتها إلا بوضوء .وكثير من هذه التجاذبات يتدخل فيها الصوفي ليصطف إلى جوار العلماني ,يبارك مواقفه ويمنحه شرعية ,ويحاول التخفيف من انفصاماته ,ويعيد تفسيرها على أنها روحانية جديدة يحدد فيها الإنسان الجديد علاقاته مع الواقع والغيب وعزلهما واستخدام الصلاة لمزيد من هذا العزل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق