السبت، 21 يونيو 2014

الحرب الأيديولوجية آخر مقال كتبه د. صالح الحصين رحمه الله

آخر مقال للشيخ صالح الحصين قبل وفاته: 

الحرب الأيديولوجية

2014-6-20 | معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصينآخر مقال للشيخ صالح الحصين قبل وفاته: الحرب الأيديولوجية
بقلم: د. صالح بن عبدالرحمن الحصين (رحمه الله) / الرئيس العام السابق لشؤون الحرمين


 
(كتب المؤلف -رحمه الله- هذه المقالة في محرم 1434، وتأخر نشرها لأنه كان حريصا على التحقق من دقة كافة الاقتباسات-بالرجوع لمصادرها الأساسية- قبل النشر، وهو مالم يسعفه الوقت ولا الوضع الصحي من تحقيقه في مواضع محدودة جدا من هذه المقالة، وحيث إن الاقتباسات غير المحققة من مصادرها الأساسية محدودة جدا، وهي لا تؤثر على مصداقية المقال، فقد رؤي نشر المقال بعد وفاته –رحمه الله- كما تركه دون تغيير أو تبديل أو حذف أو اضافه، خاصة وأن الاقتباسات المقتصرة على المصدر الثانوي قد وردت ضمن ملخصات أبحاث مؤتمر علمي).
 
بدأ إعلان هذه الحرب (الحرب الأيديولوجية) التي سميت فيما بعد "الحرب على الإرهاب"، وظهرت في صورتها الباردة والساخنة بتصريحات واضحة لا تحتمل التأويل من قبل عدد من السياسيين والعسكريين ورجال الفكر الغربيين وبعض اللجان الرسمية هناك، وذلك منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن.
 
فور انهيار الشيوعية اشتهر تصريح سكرتير حلف شمال الأطلسي "ولي كلاس" Willy Claes بحلول الإسلام محل الشيوعية عدواً للغرب (شرقيه وغربيه)، وبدأت تسمية الإسلام "العدو الأخضر" بعد أن غاب عن الوجود العدو الأحمر (الشيوعية).
 
وجاء في مجلة ألمانية متخصصة في الدراسات الاستراتيجية:
 
"في الحقيقة تبديل العدو بعدو آخر فكرة تبلورت في أشهر معدودة، إن الزحف العراقي على الكويت عجل في هذا الأمر ولكن ذلك ليس هو السبب الأصل، فمع سقوط الدول الشيوعية بدأ حلف الناتو في البحث عن استراتيجية جديدة المسار (الاتجاه) .... كان هنري كيسنجر خلال هذه الأزمة هو المتسلط الشرس، فأعلن في الربيع في مؤتمر غرف التجارة الدولية: "أن الإسلام العربي هو العدو الجديد أو العدو القادم"... البعض خفف اللهجة، لكن التوافق على ذلك حاصل".  
 
ونقل الدكتور محمد السماك، أنه: ((في منتدى الشؤون الأمنية الدولية في ميونخ عام 1991م، رفع ديك تشيني وزير الحرب الأمريكي في عهد بوش الأب شعار "الإسلام العدو البديل". وأنه في عام 1993 دعا رئيس مجلس النواب الأمريكي آن ذاك نيون جينجرتيش المجلس إلى وضع إستراتيجية كاملة لمحاربة "التوليتارية الإسلامية")) أهـ.
 
الجنرال جون كاليفان John Galvin الذي شغل منصب القائد الأعلى لقوات حلف الأطلسي NATO's Supreme Allied Commander منذ يناير 1987 حتى يونيو 1992، جاء في بعض تصريحات له عن الآفاق المستقبلية للحلف: "لقد ربحنا الحرب الباردة، وههنا نحن نعود إلى الصراع القديم إنه صراع المجابهة الكبيرة مع الإسلام" كما ذكر د. محمد السماك.
 
وأخيرا، فقد سمع العالم تصريح الرئيس الأمريكي السابق، بوش الصغير، وهو يصف حروبه ضد الإسلام بأنها "الحرب الأيديولوجية للقرن الحادي والعشرين".
 
النصوص أعلاه لا تعدو أن تكون نتفا من تصريحات متعددة تؤكد حقيقة "الحرب الأيديولوجية"، ومن البداية تم الربط بين الإسلام والإرهاب، تم ذلك على أصعدة مختلفة مدعومة بزخم إعلامي هائل، فلم ينتصف العقد الأخير من القرن الماضي حتى كانت أوروبا كلها تشاهد الفيلم الوثائقي عن الإرهاب "في سبيل الله" For the Sake of Allah وكانت أمريكا كلها تشاهد الفيلم الوثائقي "الجهاد في أمريكا" Jihad in America
ومما يعضد ما ذكر، الاقتباسات الصريحة الآتية:
 
"أكدت لجنة الحادي عشر من سبتمبر أن مصطلح الحرب على الإرهاب مصطلح مضلل، وأوصت بإعادة تسميته ليحوى: تأكيدا أيديولوجيا أكبر ضد الاسلام"
"The September 11 Commission stressed that the term war on terrorism was misleading and recommended that it should be renamed to place greater ideological emphasis against Islam"
 
وأما الجنرال ويسلي كلارك، فقد قال: إن حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب كانت "حربا على الإسلام".
 
General Wesley Clark, said that the US war against terrorism "was a war over Islam"
 
يفسر الدافع لهذه الحرب الأيديولوجية، ديفيد ستارتمان David Stratman، حيث يرى أن قادة الغرب يعتقدون أن الإسلام هو المانع الحقيقي لهم في السيطرة على أرض الإسلام، إذ يقول: "الإسلام السياسي يناسب تماما احتياج قادة أمريكا لعدو Political Islam perfectly suits the needs of America's rulers for an enemy، وإن البقاع التي يملكها المسلمون، في الشرق الأوسط وفي آسيا الوسطى، هي المناطق الأكثر استراتيجية في العالم... إن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها قط تبريرغزو هذه المناطق قبل إقناع الشعب الأمريكي إبتداءً، بأن المسلمين في حاجة لمثل هذا الغزو إما لأنهم متطرفون خطرون، أو لغرض جلب الحرية لهم the US could never justify attacking these nations without first convincing Americans that Muslims need either to be attacked because they are dangerous terrorists- or liberated"..
 
ثم يقول: "تصوير الإسلام على أنه العدو يخدم دور إسرائيل كجبهة متقدمة للإستعمار الغربي في الشرق الأوسط، وبناء على هذا السيناريو فالمسيحيون واليهود الذين يجمعهم تراث يهودي-مسيحي Judeo-Christian مشترك يهدف  لتنحية المسلمين، مدعوون لدعم الدولة اليهودية التي تقوم على التطهير العرقي الوحشي savage ethnic cleansing ضد المسلمين المتطرفين".
 
أما الدكتور مراد هوفمان، فيفسر هذا الدافع بأنه "الموروث الثقافي" في الغرب، والذي ظل حيا في ثقافة الغرب حتى بعد أن خف ميزان الدين وسيطرت العلمانية، مما يعني تجذره في عمق الثقافة الغربية وأنه ليس مجرد أمر طارئ، أو رد فعل لحدث، يقول الدكتور هوفمان:
 
"لن يكون من العدل اتهام الثقافة الإمبريالية الأورأمريكية... بعدم التسامح بشكل كلي تجاه الأديان ومظاهر التدين، بل على العكس فقد يُظهر أكثر الناس استنارة اهتماما اجتماعيا ببعض الأديان، كالبوذية والثيوسوفية Theosophy، وفي الواقع يستطيع المرء في أوروبا أو الولايات المتحدة أن يتبع المرشد الروحي الهندي الذي ينتمي له، أو يمارس سحر الهنود الحمر الشاماني دون خطر أن يفقد عمله أو حياته، طالما الأمر ليس مما يتعارض مع العمل أو المؤسسة السياسية... إلا إذا كان هذا الدين هو "الإسلام"، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي لا يشمله التغاضي اللطيف أو التسامح".
 
ثم يؤكد ثبات هذا الموقف بقوله: "أصبحت إدانة الإسلام جزءاً لا يتجزأ من العقلية الأوروبية"، يضيف تأكيدا لهذه الحقيقة: "سيكون وهماً خطيراً أن نعتقد أن الروح الصليبية قد تلاشت"..." اليوم، قد لا يكون البابا هو من يدعو للحملة ضد الإسلام، ولكن (الدعوة ضد الإسلام حقيقة) تكون من مجلس الأمن بالأمم المتحدة حين يدعو إلى التدخل لفرض حظر سلاح على دولة مسلمة هي (في واقعها) ضحية للعدوان...
 
وإذا سبرت غور النفس الأوروبية (العامة) ولو بإحداث خدش صغير لسطحها، لوجدت تحت الطبقة الرقيقة البراقة عداء للإسلام يمكن استدعاؤه وتوظيفه في أي وقت، وهذا بالضبط ما يحدث في أوروبا في العشرين سنة الماضية".
هذا من الجانب النظري، ومن شواهد الواقع التطبيقي يمكن أن نورد الآتي، على سبيل التمثيل:
 
كان العداء للإسلام المحور الرئيس فيما أدخل من تعديلات على المهام الأمنية لحلف شمال الأطلسي منذ قمة بروكسل عام 1993 وجرى تثبيته في قمة واشنطن عام 1999 ورافق ذلك تعديل كامل لصياغة المهام الأمنية على مستوى الجيوش الوطنية في الدول الأعضاء.
 
أما بخصوص أمريكا، فيوجد دافع مستمد من الإيمان بنصوص دينية، يُصوره الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر  بقوله، بعد أن أشار إلى معتقدات الفكر الديني المتطرف، والمتنامي، في أمريكا: "وانتقل تأثير معتقدات هذه الطائفة الى سياسات الإدارة الامريكية بصورة تدعو للقلق"، وذكر بأن: " تحقيق هذه المعتقدات يعتبرمسئولية شخصية -لدى المؤمنين بها- لا بد لهم من الوفاء بها"، وأضاف بأن: "من أبرز أجندة المؤمنين بهذه المعتقدات الدعوة للحرب في الشرق الأوسط ضد الإسلام، والدعوة ليأخذ اليهود جميع الأرض المقدسة ويطردوا غيرهم".
 
 
ويصوره Jonathan Clarke & Stefan Halper في تلخيصهما للخطوط الرئيسية لتفكير المحافظين الجدد، في ثلاثة أمور:
 
 
الاعتقاد المبني على أساس ديني؛ أن المقياس الصحيح للخُلق السياسي هو مدى الرغبة والعزم في مكافحة الخير (الذي يمثلونه) للشر.
 
التأكيد على أن ما يجب أن تُعتمد عليه العلاقات بين الدول هو القوة العسكرية والعزيمة على استعمالها.
 
التركيز في البداية على الشرق الأوسط والإسلام العالمي كتهديد لمصالح أمريكا في الخارج.
 
يتردد دائما وبصورة ملحة ملفته للنظر على ألسنة السياسيين والاستراتيجيين والمحللين الأمريكان والأوربيين: "ربحنا الحرب الباردة ضد الشيوعية، فعلينا أن نستعمل الإستراتيجية نفسها والتكتيكات نفسها في الحرب ضد الإسلام". 
 
من نماذج "التكتيكات" التي استخدمها الغرب ضد الشيوعية في الحرب الباردة نشاط منظمة "جلاديو"GLADIO التي أنشأتها المخابرات الأمريكية والإنجليزية، حيث كانت تقوم بتفجيرات في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وتنسبها لليساريين بقصد سحب تعاطف الناس مع الأحزاب اليسارية، حتى لا تصل إلى الحكم، ومن أفظع هذه النشاطات تفجير غرفة انتظار الدرجة الثانية في محطة قطار روما في عام 1980، حيث قتل 85 شخصا وجرح كثيرون ونسب التفجير في ذلك الوقت إلى المنظمة اليسارية "الألوية الحمراء" وكانت النتيجة عدم وصول الحزب اليساري للحكم، ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة صدر تقرير برلمان روما يكشف أن العملية تمت بيد المخابرات الأمريكية بالتعاون مع عناصر من المخابرات الإيطالية.
 
ومثل ذلك تماماً استخدم الغرب الوسائل نفسها في حربه الباردة ضد الإسلام على سبيل المثال:
 
أحصى تقرير الـ "يوروبول" Europol annual report  الصادر عام 2007 -بعنوانEU Terrorism Situation and Trend Report- أحصى الهجومات الإرهابية ضد دول الإتحاد الأوربي في عام 2006 فبلغت (498)، منها واحدة فقط نسبت للمسلمين، حين أتهم شابان لبنانيان بمحاولة تفجير قطارات في ألمانيا، و424 نسبت للانفصاليين و55 لليساريين والباقي لليمينيين، وقد حوكم الشابان وحكم عليهما بالسجن، ولكن لفت النظر أن أحدهما لم ينفذ في حقه الحكم، وتبين فيما بعد أنه عميل للمخابرات الألمانية وأنه هو الذي ورط الشاب الآخر، مما أوجب إعادة المحاكمة.
 
مثل ذلك، عمل المخابرات الأمريكية حين أغرت الشاب الصومالي محمد عثمان محمد (19 عاما) عام 2008م بمحاولة التفجير في مكان عام فوفرت له السكن وأعطته المال والمتفجرات، لكي تُظهر أن شاباً مسلماً حاول القيام بعملية إرهابية. 
 
ومثل عمل المخابرات الأمريكية في عام 2011 حيث هيأت الظروف لشاب باكستاني (رضوان فردوس) Rezwan Ferdaus وأعطته التمويل المالي وهيأت له متفجرات وطائرة (هواة) ذات تحكم عن بعد وتسهيلات زائفة، بقصد إظهار أن مسلماً حاول القيام بعملية إرهابية. 
 
في قصص متعددة بعضها افتضح، وبعضها بقي في طي الكتمان - وكما في كل العمليات الإرهابية التي تقوم بها الحكومات وتسميها الموسوعة البريطانية Encyclopedia Britannica بـ “Establishment Terrorism” فإن الغرب في حربه الباردة ضد الشيوعية، أو بعد ذلك ضد الإسلام، كان لا يأبه أن يكون من بين ضحاياه في عملياته الإرهابية أبرياء لم يكونوا أهدافاً بالذات، بل كان لا يأبه أن يكون مثل هؤلاء الضحايا من مواطنيه.
 
نموذج لهذه العمليات الإرهابية الحكومية التي انكشفت في آخر عام 2001 إرسال ظروف إلى رجال الكونجرس وكبار الصحفيين بداخلها بكتوريوم وباء الجمرة الخبيثة Anthrax ورسائل تحمل هذه الكلمات: "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، الله أكبر"، ولم يعرف السياسيون وخاصة رجال الإدارة والمحللون الصحفيون والكتاب الكلل وهم يحذرون الشعب الأمريكي من "الإرهابيين المسلمين"، وأنهم حازوا السلاح البيولوجي وبدأو استخدامه.
 
ودخل الرعب كل بيت في أمريكا وشحت التطعيمات ضد الوباء، لمدة أكثر من شهر، حتى كشفت الدكتورة "باربرا روزمبرج" Dr. Barbara Hatch Rosenberg خبيرة السلاح البيولوجي أن البكتوريوم داخل الظروف مصدره معامل الجيش الأمريكي، فخمدت الضجة، وبالطبع لم تكن "روزمبرج" هي أول من اكتشف هذا، كانت الإدارة الأمريكية بلا شك على معرفة بذلك من أول يوم.
 
ومن بين ثلاثمائة مليون مواطن أمريكي، لم يسأل واحد منهم لماذا خدعتنا حكومتنا الديمقراطية، وسمحت بالرعب وتداعياته أن تدخل كل بيت، وبتزييف حقيقة الواقعة وهي تعرفها من أول يوم، إن لم تكن المتورطة فيها. 
 
ولم توجه التهمة رسمياً إلى العَالِم في معامل الجيش الأمريكي " بروس، أي، أيفر" Bruce Edwards Ivins إلا في أغسطس عام 2008 ، وبعد أن مات المتهم بأسبوع، وبالطبع الميت لا يستطيع أن يفشى سراً، ولا يكذب الخبر الزائف عنه. 
 
في الحرب مع الشيوعية منع توازن القوى والفزع من نشوب حرب نووية أن تتحول الحرب الباردة إلى ساخنة، وإن كادت في مناسبتين اثنتين، أما فيما يتعلق بحرب الغرب مع الإسلام فكان الأمر أيسر، وشنت في عام 2001 الحرب من قبل اتحاد من أربعين دولة ضد دولة مسلمة فقيرة وضعيفة ظلت تحت الحصار الاقتصادي والسياسي والإعلامي فترة ليست قصيرة، شُنت هذه الحرب بمبرر حادث الحادي عشر من سبتمبر، وظهر بعد ذلك من وثائق البنتاجون أنها كان يخطط لها قبل ذلك بأكثر من سنتين. 
 
من الطبيعي أن يكون للمملكة العربية السعودية بحكم أنها "مركز الإسلام" الحظ الأوفى من هذه الحرب وأن تجرب المملكة مواجهة وسائلها وتكتيكاتها، بالإضافة إلى وسائل جديدة لم يفكر الغرب الحر في استخدامها ضد الاتحاد السوفييتي كما صرحت نصوص "تقرير اللجنة الأمريكية للتحقيق في حادث الحادي عشر من سبتمبر".
 
كانت الإدارة الأمريكية منذ عام 1995م قد وضعت المؤسسات الخيرية السعودية تحت المراقبة الدقيقة "التجسس" بغية الحصول على معلومات تتكئ عليها بالضغط على المملكة لتحجيم نشاطها الإغاثي والدعوي، وبالرغم من استمرار هذه الجهود حتى تاريخ صدور التقرير في عام 2004 م إلا أنها لم تحصل على أي معلومات تتكئ عليها في اتهام تلك المؤسسات بالصلة بالإرهاب ولكن ذلك لم يمنع الإدارة الأمريكية من جهود الضغط على المملكة لتحجيم نشاطها الإنساني.
لم يمض على حادث الحادي عشر من سبتمبر ثلاثون ساعة حتى كانت شاشات التلفزيون في أمريكا وفي العالم تمتلئ بالصور الكاملة لأمير بخاري وعدنان بخاري الطيارين السعوديين، وتشرب العالم الخبر بأن الإدارة الأمريكية تعرفت على هوية شخصين من الطيارين الخاطفين ولم يؤثر في رسوخ هذه الفكرة في شعور العالم أنه عُرف فيما بعد أن عدنان بخاري لا يزال حيا وأن أمير بخاري مات قبل الحادث بمدة، وكان النادر من الناس من عرف أن عدنان بخاري قبل أن يظهر صورته على شاشة التلفزيون كان قد غُيّب ولم يمكن لأحد الاتصال به ولم يتمكن من فضح الكذبة.
 
من أغرب الوسائل التي اُستعملت في الحرب الباردة ضد المملكة تطبيق حِكْمة الاستراتيجي الصيني القائلة: "أن أسهل طريقة لهزيمة عدوك، أن تجعله يستعمل سلاحه ضد نفسه وأن تورطه في أخطاء مدمرة لقوته". 
 
على سبيل المثال: بعد أن نجحت أمريكا في دفع المملكة بأن تحجم نشاطها الإنساني الإغاثي والدعوي خارج المملكة، أقنعتها في يناير 2004 في أن يشترك مسئول سعودي يتحدث باسم المملكة مع مسئول من أكبر أعضاء الإدارة الأمريكية في عقد مؤتمر صحفي يعلنان فيه على العالم بالصوت والصورة أن عددا من المكاتب السعودية الخيرية في الخارج تدعم الإرهاب، ويتقدمان متضامنين بالطلب من الأمم المتحدة لتصنيف تلك المكاتب داعمة للإرهاب، وطبيعي أن لا تتردد الأمم المتحدة في إجابة هذا الطلب، رغم أنه طلب ظالم. 
 
المتلقي العالمي للخبر لم يلق بالاً لأسماء تلك المكاتب ولم يفكر في التعرف على مواقعها، وإنما تركزت لديه فكرة ظلت راسخة عنده "أن المملكة العربية السعودية تحت غطاء العمل الإنساني كانت تعمل على دعم الإرهاب العالمي"، لاسيما من يعرف منهم ان  تلك النشاطات الخيرية السعودية كان يشرف عليها وزير في الحكومة وتدعم بالملايين من المسئولين الحكوميين وأعضاء الأسرة المالكة، كما لم يؤثر عليه صدور تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر، بعد عدة أشهر، والذي يتضمن نصوصا صريحة تكذب هذا الادعاء. 
 
*** 
وفي خطوة عملية جدية أبعد من ذلك، كان للمملكة نصيب من تفكير العدو في استخدام وسائل أكثر سخونة، فبعد الهزيمة السهلة والسريعة للجيش العراقي انفتحت شهية الولايات المتحدة لتكرار التجربة في أماكن أخرى وسرعان ما بدأت البحث عن حصان طروادة لاستخدامه في العمليات ضد المملكة كما حدث في حالتي: أفغانستان والعراق، فاتصلت بالمعارضة في إنجلترا ولما لم تجد لديها الاستجابة المطلوبة حاولت التجربة مع المعارضة في المنطقة الشرقية فوجدت ليونة من بعض السفهاء.
 
في هذا الصدد جهدت الحكومة الأمريكية في حشد الشهود من الإدارة الأمريكية وممن تسميهم "الخبراء" خلال أكثر من عام (2003- 2004) لتهيئة الرأي العام الأمريكي ولإقناع الكونجرس والأمة الأمريكية بالـمبرر الكـافي لاتخاذ إجراء ساخن ضد المملكة، لأنها "البيئة المفرخة للإرهاب العالمي"، الذي تحاربه أمريكا وأوروبا ودول أخرى . 
 
وحماية الله وحدها لـ "مركز الإسلام"، ومن بعد لم يكن لأحد من البشر دور في دفع هذا البلاء سوى صمود المقاومة العراقية التي أوقعت العدو في مستنقع صار طموحه أن يخرج منه، وكان ذلك سبباً لمراجعة العدو خططه، بشأن المملكة خاصة، ومن ثم تغيير إستراتيجيته.
 
ولما فوجئ العالم بما نشرته وكالات الأنباء عن تسريبات محادثات بوش وبلير حول الموضوع، دهش لأنه حتى ذلك الوقت كان يظن أن أمريكا "صديقة" للمملكة!!
 
بعد هذا كله، غريب أن يظل كثيرون من بيننا يرددون ببلاهة مصطلح "الحرب العالمية ضد الإرهاب" أو "الحرب ضد الإرهاب العالمي" وهو اصطلاح يعني الربط بين الإسلام والإرهاب.
 
إن هذه الحرب فاشلة لا محالة، رغم كثرة ضحاياها البريئة، وإن انتصار الإسلام قادم، ويرجع ذلك إلى أنه الحق، ويشهد لذلك أنه مع كل هذا التشويه العالمي للإسلام، والكيد الكبير في حربه، اقتصاديا وثقافيا وعسكريا، ظل الإسلام في واقع الحال يتقدم بنفسه فيكسب ليس الغوغاء والجهلاء برشوة "الغذاء والدواء"، إنما يكسب كبار المثقفين في الغرب من فلاسفة وعلماء وكتاب وقساوسة، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
 
ولعله من المناسب أن نستحضر هنا مقولة صموئيل هنتنجتون:
 
"لقد أنتصر الغرب على العالم، ولم يكن ذلك بفضل سمو أفكاره أوقيمه أو دينه، ولكن بتمكنه الهائل من تنفيذ العنف المنظم"..
 
"The West won the world not by the superiority of its ideas or values or religion but rather by its superiority in applying organized violence." - Samuel P. Huntington 
 
ولكن تاريخ المقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني، والمقاومة الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي سابقا وحاليا ضد أمريكا وحلف شمال الأطلسي رغم التفاوت الكبير في ميزان القوى، كاف ليثبت لمليار وستمائة مليون من المسلمين أن شعورهم بالذلة والمسكنة والهوان إنما جاء فقط من عند أنفسهم.
 
لم تذهب مرارة الأسى من حلوقنا ونحن نتذكر أن بعض الصحف السعودية واجهت بكل بلاهة انسحاب الحكومة الأفغانية من كابل عام 2001 بالشماتة والسخرية، مع أن التاريخ أثبت لنا -إذا ما قيست الأمور بالنتائج- أن ذلك الانسحاب كان من أنجح التكتيكات الحربية، إذا ما أعتبر أن هزيمة المحارب تحدد استرتيجيا بعجزه عن تحقيق أهدافه، أوإذا انتهى الأمر بجر العدو إلى بؤرة الرمال المتحركة.
 
الغرب عاجز عن مواجهة الإسلام بالقوة المادية أو المعنوية، وعليه فإن فشل المسلمين وذهاب ريحهم إنما هو فقط باستجابتهم لمكر العدو في التفريق والتنازع بينهم ودخول الوهن والخذلان في قلوبهم [وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]، [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ].
 
المشكلة الحقيقية تكمن في كيف تدخل في القلوب الحقيقة التي عَبَّرت عنها الآيات الكريمات: [...وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]، [...وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ].

رائع هو.. إحسان الظن

رائع هو.. إحسان الظن


   الحمد لله وبعد: فمن شيم المؤمنين إحسانُ الظنون بعباد الله, فلا يتبعون سوءَ الظنّ إلا عند غلبة الشبهة, مع ذلك فلا يحقِّقُون سوءَ ظنّهم, بل يحملون لإخوانهم أعظمَ المعاذير, وأجمل المحامل, فيقول الصالح لنفسه وقد بلغه عن أخيه سوءٌ: لعلّ الخبرَ لا يثبت, لعلّها نميمةٌ وبهتان, لعلّ أخي المسلم الذي قيلت فيه القالةُ لم يقصد, لعلّه كان ناسيًا, لعلّه كان غافلًا, لعلّه لعلّه.. فيستطيلُ في تلمّس أعذارِ أخيه, فيروح وقد أراحَ فؤاده من حرارة الأحقاد, ووساوس المعاداةِ, فيكسب بذلك أربح التجارات, إذ قد ربح أجره, وربح راحة نفسه, وربح محبّة الناس له, وربح النُّجحَ في أموره لحسن نيّته, فالله شكور حميد, وربح حُسن العاقبة في الدنيا, فكم ممن قصد الإضرار بعبدٍ ثم تاب وأناب وشكر ذلك المضرور على إحسانِ ظنٍّ نفعه ولم يضرّه.
    والطباع سراقةٌ, والجبلّات نزّاعة, وإنّما الحلم بالتحلّم, ومن فروع الحلم حسنُ الظنِّ, ويتأتّى بالدُربة والممارسة وتعلّمِ أسبابِ ذلك, وتلمّحِ موارده, والبحثِ عن متمماته, وفحصِ غوائلِ النفسِ, وتنظيفِ دغائلِها على من لا يستحقون سوى الإحسان.
قال الله تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ” قال بعض السلف: من جعل لنفسه من حُسْن الظَّن بإخوانه نصيبًا، أراح قلبه. وقال رجل لمطيعِ بنِ إياس: جئتُك خاطبًا لموَدَّتك. قال: قد زوجتُكَهَا على شرط أن تجعل صدَاقَهَا أن لا تسمع فيّ مقالة النَّاس.

ومرض الشافعي رحمه الله، فأتاه بعضُ إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوَّى الله ضعفك. فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني. قال: والله ما أردت إلَّا الخير. فقال الشافعي: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير. ألا رحمة الله على المُطّلبي, ما أحكمه وأرحمه وأحسن ظنه!
 ومن رام النجاة فليأخذ بأسبابها, وليتعلّق بِعُراها, وما ثمَّ إلا توفيقُ الله تعالى وهُداه, وقد جعل الله لذلك أسبابًا فمنها:
 أن يلتمسَ الأعذارَ للمؤمنين، قال ابن سيرين رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد، فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه. وفي التماس الأعذار راحة للنَّفس من عناء الظَّن السَّيئ، الذي يشغلها ويقلقها، وفيه أيضًا إبقاءٌ على الموَدَّة، وحفاظ عليها من الزوال والانتهاء. وكان بعض الصالحين يردّد:
تأنَّ ولا تعجلْ بلومِكَ صاحبًا   ...   لعلّ له عذرٌ وأنتَ تلومُ
ومنها: إجراءُ الأحكام على الظاهر، وإيكالُ أمر الضَّمائر إلى الله العليم الخبير، واجتناب الحكم على النِّيَّات، فإنَّ الله لم يكلِّفنا أنَّ نفتِّش في ضمائر النَّاس. لذا فالاكتفاء بظاهر الشَّخص، والحكم عليه من خلاله، من أعظم بواعث حُسْن الظَّن، وأقوى مثبتاته.
إذا ساء فِعلُ المرء ساءتْ ظنونهُ   ...   وصدّق ما يعتاده من تَوَهّمِ
قال أبو حامدٍ رحمه الله: إنَّ الخطأَ في حُسْن الظَّن بالمسلم، أسلمُ من الصَّواب بالطَّعن فيهم، فلو سكتَ إنسانٌ مثلًا عن لعن إبليس، أو لعن أبي جهل، أو أبي لهب، أو من شاء من الأشرار طول عمره، لم يضرَّه السُّكوت، ولو هفا هفوة بالطَّعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرّض للهلاك، بل أكثرُ ما يُعْلمُ في النَّاس لا يحلُّ النُّطق به؛ لتعظيم الشَّرع الزَّجرَ عن الغيبة، مع أنَّه إخبار عما هو متحقِّق في المغتاب.
هذا وقد أجاز العلماء بعض صور سوء الظن, كمن بينه وبين آخر عداوةٌ, ويخاف على نفسه من مَكْرِه، فحينئذ عليه أن يحذَرَ مكائدَهُ ومَكْرَه؛ كي لا يصادفه على غرَّة فيُهلِكَه. ومن ذلك من أظهرَ المعصية وتخلف عن الطاعة بلا عذر, كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنَّا إذا فقدنا الرَّجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر، أسأنا به الظَّنَّ. رواه البيهقي بسند صحيح.
قلت: وشتّان بين ظنِّهم وظنِّ أحدِ الناس الذي فقد جارَهُ عن شهودِ الجماعة بضعةَ أشهر, فأخذ في الكلام في عرضه, والحطِّ من قدره, وأن فيه من سيما المنافقين, وكذا وكذا.. ولم يكلّفْ نفسه السؤالَ عنه, ولا احتمالَ حسنِ الظن به. وفي أحد المجالس بعدما أرغى وأزبد وانتفخ بالباطل, ردّ عليه أحد جيرانه: إن فلانًا الذي ما زلتَ تتكلمُ فيه قد كان مصابًا بمرض خطير ألزمه البيت ستّة أشهر, ثم توفاه الله بعدها, فأُسقطَ في يدِ صاحبنا! ولكن بعد خراب البصرة!
إن حسن الظن هو القاعدة, وسوؤه مع مبرّره الملحُّ هو الاستثناء, فإن انقلب الاستثناءُ قاعدةً هَلَك الناس! قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: لا يحلُّ لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمةً يظنُّ بها سوءًا، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجًا.
 وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من علم من أخيه مروءةً جميلةً فلا يسمعنَّ فيه مقالاتِ الرِّجال، ومن حَسُنت علانيته فنحن لسريرته أرجى.
فعلى المؤمنِ الناصحِ لنفسه أن لا يبحث لها عن المعاذير والمخارج, وأن لا يُرْكِبَهَا قلائصَ التأويلِ التي لا تُغني عنه من الحق شيئًا, في إساءة الظن بما لم يؤذن له فيهم من المؤمنين, بل عليه أن يسيءَ الظن بنفسه, ويحسن الظن بالعباد, وقد حسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر فقال: "إيَّاكم والظَّن، فإنَّ الظَّن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا" رواه أحمد, قال النَّووي: المراد: النَّهيُ عن ظنِّ السَّوء، وقال الخطَّابي: هو تحقيقُ الظَّن وتصديقُه دون ما يهجسُ في النَّفس، فإنَّ ذلك لا يُمْلَك. ومراد الخطَّابي: أنَّ المحَرَّمَ من الظَّن ما يستمرُّ صاحبُه عليه، ويستقرُّ في قلبه، دونَ ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإنَّ هذا لا يكلَّفُ به.
ومن جميل أقوالهم: السِّتر لما عاينت، أحسن من إذاعة ما ظننت. وقال أحد الزُّهاد الحكماء: أَلقِ حُسْنَ الظَّن على الخَلْق، وسوءَ الظَّن على نفسك، لتكون من الأوَّل في سلامة، ومن الآخر على الزيادة.
بارقة: تكلّم أحدهم على الحسن ثم ندم واعتذر؛ فعفى عنه وأوصاه بقوله: لا تخرجنّ من بيتك وفي نفسك أنك أفضلُ من مؤمن تلقاه قط.
إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

ولايات تنفيذية أم إقطاعات مِلْكية؟!

ولايات تنفيذية أم إقطاعات مِلْكية؟!



   (مقال تم منعه من النشر في الصحافة)
   عاش شبح الإقطاع في أوروبا ألف سنة يقتات على دماء البشر الضعفى وحريتهم وكرامتهم في ما يسمى بالعصور الأوروبية المظلمة, فيعطي الملك أجزاء من الأقاليم بأهلها لملاك يملكون الأرض وأهلها, ولا يجيز القانون حينها (لقطعان) البؤساء الخروج من تلك الأملاك, فهم من ضمن حيوانات المزرعة! بل يحق للمالك بيعهم مع تلك الأرض, وكان هذا أكبر أسباب ثورة باريس. 
   المضحك المبكي أن بعض مسؤولينا قد فهم – بلسان حاله - أن توليته للمنصب التكليفي هي تملك محض؛ فيحق له إذن أن يصنع في إقطاعيته ما يشاء!
   أن تكون محل ثقة ولي الأمر فترشح بتزكيات ومؤهلات حتى إذا تسنّمت رئاسة وزارة أو هيئة أو جامعة أو قطاع خدمي مما يمسّ المواطن في دينه أو عرضه أو معيشته أو أمنه أو ثقافته, ثم تتصرّف من علٍ وبلا قيد كأنما قطعت سرّتك فوق ذاك الكرسي وأخذت صكًّا من والدك بملكيّته فأنت تعود بنا حتمًا لعهود الإقطاع الذي يعامل البشر كأقنان أرض وعبيد خاتم!
   حينما يضرب المسؤول باللوائح المنظمة والقيود التراتبية عرض الحائط, ويتجاوز خارج إطاره التنفيذي المحدّد, ويوسع عامدًا الهامش المُعطى له - كي يتسم بمرونة أمام آحاد القضايا - ثم نراه قد أربى ذلك الهامش فجعله نصّا وأصلًا فاكتسح الناس بحدّته وفوضويته وتدخله فيما لا يعنيه وافتئاته على ولاة أمره وتعاليه على مرؤوسيه؛ فنحن أمام حالة مرضيّة تحتاج لتدخل عاجل ولو ببتر العضو المصاب بإعفائه أو وركنه.
 الأصل في المسؤول الناجح الستر على مرؤوسيه والدفاع عنهم أمام الناس, مع الحزم معهم والشدة فيما بينه وبينهم. فيكسب ثقة الناس في جهازة وثقة موظفيه به وحبهم له وللمؤسسة التي تظلّهم.
   الوزير فمن دونه ومن فوقه _ ياسادة _ هم موظفون وخدم للأمة ليسوا ملّاكًا لوظائفهم, وليس لهم مطلق التصرف فيها, بل يقيدهم النظام الذي لا يعدون أن يكونوا منفذيه فقط, وتلحقهم المسؤولية والمحاسبة بقدر فشلهم في مهمتهم.
   أن يأخذ المسؤول خلافاته العملية أو الفكرية مع موظفيه أو مواطنيه مأخذًا شخصيّا, فيلوي أعناق الأنظمة ويتوسع في السلطة فيجمع لنفسه السلطات الثلاث؛ فهذا خلل يستوجب تدخل من فوقه لأطره على العدل وكفّه عن بغيه وعدوانه.
   حينما يناصِحُ الغيورون من موظفي الجهة الحكومية مسؤولهم المباشر, ويذكرونه بالله, ويناشدونه إحسان عمله وتقوى الله فيه وفيهم وفي المجتمع, وكفّ عاديته عليهم في الإعلام بالتصريح والتسريب والتهويل والتهديد بالفصل بل والتعسف بالنقل وتشتيت آصرة الموظفين وأُسرهم, فيستنجد ذلك المسؤول بالأمن ويصوّر الأمر كأنه اعتداء على شخصه الوديع وتهديد لكيانه المستقيم؛ فهذا ليس من الرجولية والفروسية والشيمة في شيء, بل هو مكر يُعاب صاحبه ويعيّر إن أصرّ, وينبغي أن يسارع بالنظر في صلاحيته لمثل تلك الرتب.
   وكم من مفسد في ثوب مصلح ومحتسب للباطل لا الفضيلة, ومحتسبٍ في حاجة لاحتساب الناس عليه, ولا عجب أن سربل بالعار أشباهه حينما استجره شؤم ظلمه على من تدفع البلايا بعد الله باحتسابهم حينما اقتبس أدبيات الغرب الإباحية – ثم رماها بكل فجور على شعب من أطهر شعوب الأرض - وإن رغم أنفه ومن وراءه! -
   وحينما نرى مديرًا لقطاع تعليمي تربوي يتعامل في قطاعه كأنما هو إقطاعه, فيرفع ويخفض, ويقبل ويرد, ويمنح ويمنع, ويصنّف ويجرح, ويزكّي ويمدح, لا يرد قوله ولا يكفّ بغيه, ولا يكتفي بالقريب بل يرمى بشرره حتى من كان على هرم دولة إسلامية كبرى, فيقذفهم بلا بيّنة ولا برهان إنما هي إِحنٌ فكرية كالظلف وحتف صاحبته, فأحرج الدولة والشعب بأن أوهم أن هذا وأمثاله هم قادة الفكر والتربية والتوجيه! فنحن أمام ورمٍ حريّ أن ينتشر داؤه ويستفحل إن لم يُتدارك بإقالة وتحقيق.
   وحينما نرى أن القاضي يقتّر زمن التقاضي للثلث ويختلس الباقي, ومن ثم يسلق القضايا بلا رويّة, ثم يقول بلسان حاله: إن العبوس من مباهج القضاء ولوازم القسطاس؛ فهذا مطفف منكوس محتاج لإنزاله من برجه العالي لواقعه الخالي, فكما نقول: أكرموا قضاتكم وأجلّوهم, فكذلك نقول للقضاة: اتقوا الله فيمن استرعيتم عليهم, وويل لبعض قضاة الأرض من قاضي السماء.
   وحينما نرى وزيرًا يستبدل سعيه لتوظيف الرجال الذين ضج الفضاء ببطالتهم بمن كُفينَ المؤونة, ثم نرى هجّيراه في تطبيق الاختلاط المنظم المقصود بقوة سلطته, دون مراعاة لسياسات الدولة المرعية في صيانة العفاف وسد ذرائع الفساد.
   وحينما نرى مسؤولًا قد قلده ولي الأمر سنام التوجيه عبر الأثير المسموع والفضاء المرئي أو الصحافة ونحوها, ثم يختزل مخالفيه في قوقعة لا تكاد تًرى أو تسمع, بينما يتورم فضاؤه بمن كانوا على لونه وديباجته, فيصبّون على رؤوس المجتمع ما يخالف فطرتهم وسلامة معتقدهم وصفاء أخلاقهم؛ فنحن أمام قمعٍ فكري ووباء عقدي وحرب أخلاقية مستوجبة للوقوف حيالها بحزم وصلابة من لدن المسؤول الأول عن هذا الوطن العظيم. فلا بد من إعادة النظر حيال اختيار من خالفوا سياسته المحكومة بشريعة رب العالمين.
   ومن فروع ذلك حينما نرى من كان على رأس صحيفة أو قناة فضائية محسوبة على وطن الإيمان والفضيلة ينشر بجلَد وفجاجة ما يوافق ليبراليته بشتى الطرق المباشرة وغير المباشرة مهيئًا ومناصرًا لهدم الشريعة البطيء في نفوس المجتمع, ثم يضيق بالمنكرين عليه فيكتفي بإلماحات أو قصاصات لا تغني ولا تنفع, فيدلس عبر إبراز الباطل قشيبًا جميلًا فاشيًا, وإظهار الحق ضعيفًا منبوذًا متوحشًا.. ما هذا؟! وأين يذهب بنا هؤلاء؟! وللعلم فالمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا, وتمكين المبطل عائد على مُمَكِّنِه, إذ لو شاء أدّبه.
   وحينما نرى تورّمًا لحسابات المسؤول بعد توليته فإنا بحاجة لإعادة السنة العمرية بتفاصيلها: من أين لك هذا؟
   أما مجلس الشورى فقد صار موضع تندّر وسخرية خليق بها من كان راضيًا عن هزال مخرجاتهم, والصدمة تكون بحجم بلد إذا علمت أن هؤلاء هم مقدَّمُوه, ولكننا نظلمهم مرتين إن تناسينا طريقة تعيينهم ومقدار ثقل توصياتهم عند صاحب القرار.
   إن خطأ المسؤول وارد, وهو لا يخرج عن دائرة الممكن والمعتاد بحكم ضعفه او تقصيره مالم يكن ذلك الخطأ نوعيّا بخطورته أو كميّا بتكراره.
   وملاك القول عزيزي المسؤول: سيأتيك يوم تلتفت فيه للخلف فلا تجد إلا ذكريات تطرب روحك وتغنيها, أو تفطر قلبك وتبكيه, فاكتب بحالك ما تود رؤيته غدًا, واعلم أن كل شيء لغير وجه الله يضمحل, والسلام.
   إضاءة: إن الحياة - بحسَب أرسطو - تراجيديا مؤلمة لمن يشعر, وكوميديا مسلية لمن يفكّر. قلت: أحيانًا تمتزج حتى تكون كوميديا مبكية أو تراجيديا تُضحك الثكلى, فملهاتها تحمل مأساتها, ومأساتها تبعث مسلاتها! ولا تعجب ففي القوم أعجب!
إبراهيم الدميجي

حينما تخنق الفروع أصلها, وتمنع الوسائل غايتها!


الحمد لله, وبعد: فمن ألف باء فهم المسائل حسن التصور لها إجمالاً, أما تحقيق حدود التفاصيل فهو ميدان اختلاف الرأي, وفي دائرته يكون السجال مؤيدًا بالبراهين.
كمسلمين لدينا كلية مطلقة لا تقبل الجدل والتمحّك, ولا الضبابية والتمحّل, تلك هي محورية تحقيق العبادة لله جل وعلا.
فهذا القدر الكلي مجمع عليه, لذا فمنه المنطلق في الحوار وإليه العود في الترجيح.
فموضوع الغاية من الخلق محسوم بآية الذاريات, إنما الشقاق يكون بالقفز الفكري أو الشعوري خارجه! لذلك فطريقة القرآن هي رد الناس إلى هذه الغاية مهما تلونت سبلهم وأسبابهم, فيستحيل أن يتعدد الحق في نفسه, إذن فلا بد من مرجعية مهيمنة وحاسمة, تلك بلا تردد هي حاكميّة الوحي المنزل.
دعونا نقف على أمثلة متنوعة الألوان والرسوم حتى ندرك خداع النفس الأمارة لصاحبها حينما تتلفع له بقناع النصح والوداد المُخفي لما تحته من وجه الحقيقة الآثمة!
ثَمّ خمسة أمثلة, الأول: مثال الفقيه المبرّر بليّ أعناق النصوص لما يراه من تقديم مصلحة دنيا الناس على دينهم بتضخيم جانب أمن الجسد على أمن الديانة.
فحينما يتوسع الفقيه في منطق تسويغ فعل السياسي خارج حدود المقبول, وينشغل بترقيع خَللِ السياسي في مقابل تضخيم خوف المآلات بحجة - أو شبهة – دفع ورفع الفتن المتوهّمة, فنحن هنا أمام مثال لتقزيم الأصل وهو تحقيق العبادة لرب العالمين في سبيل حفظ دنيا لفرد أو جماعة.  وكم من مبطل  بلباس ناصح!
 ولا نعني بذلك إلغاء القصد النبيل للفقيه, فهو أمر قد جاءت به الشريعة وعظّمت شأنه, فلا يقوم الدين إلا بدنيا صالحة, والتاريخ شاهد صدق, إنما المطلوب أن يُحجّم الأمر بقدره الشرعي فلا يكون هو الأصل دون تحقيق العبادة لله.
وللتوضيح نقول: تحقيق العبودية عبادة محضة ومحور لا يقبل التجزئة, أما غير ذلك فهي وسائل لتحقيقها لا غير, فهذه الوسائل ملحقة بالعبادات من جهة أنها تفضي إليها لا أنها هي.
 قال تعالى: "والفتنة أشد من القتل" فالفتنة حينما تصرف عن الأصل الأعظم وهو الإيمان فهي بلا ريب أشد من قتل يُتلف الجسد وتبقى بعده حياة الإيمان. وفرض الوقت هو أن تُحفظ العبادات ووسائلها بحيث لا تنقلب الوسيلة غاية ولا الفرع أصلًا, وبالمقابل لا يجوز أن تُلغى الوسيلة بحيث لا يبقى للمرء بعدها لغايته وصول.
فحاكم الشام – على سبيل المثال لا الحصر – قد بدّل الدين وغيّر الملة وحارب الشريعة, فليس من الحكمة الشرعية في شيء أن يؤمر الناس بمسالمته وهو يظنون أنهم قادرون على إبداله بالصالح في الدين والدنيا.
الثاني: الغيور المنكِر المتحمس الذي ترتاح نفسه للّجَجِ والخصام, والعجلة, والبداءة بالتغيير بسلاطة اللسان وسوء الظن وتفتيش النيات وكشف العورات والفرح – عمليًّا – بالزلات, ونشر المنكرات وإشاعتها بقصد حربها وكسرها, والتساهل في اتهام أهل العلم والفضل بالتقصير في القيام بأمر الدين, ووصمهم بالمداهنة وبيع الآخرة نظير عمالةٍ من سلطان.. ونحو ذلك مما قد كُفيه ولم يكلّف به, ولكن أبت عثرتُه إلا أن تُكرعه حمأة البغي!
وقد يزيد هذا العَجولُ بلا علم ولا حلم فينكر باليد ما ليس تحت يده ومما ليس مأذونًا له فيه, وقد يستطيل بغيًا فيستطيب إشهار السيف على من حرّم الله في سبيل إقامة أمنيةٍ لا يراها خارج جمجته الحيرى! فيفرح بدرس نواقض الإسلام دون درس موانع التكفير بل يرعيها أذنًا صماء, فيكتفي بالأولى ليركض بها في نكيره, ويتعمّد الإغماض عن الثانية لأنها تقيد حريّة طيشه! ويكأنما نسيَ أن شارع الأولى والثانية واحد. وكم من مريدٍ للخير لم يبلغْه, وكم من كارثة لا ترقؤها الأيام ابتدأها من يظن فعلَه صالحًا! "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا"
يا صاحبي: إنكار المنكر فرض على الأعيان أو الكفايات بحسب الأحوال, فاحرص على اعتدال رمّانة ميزانك بلا وكس ولا شطط, فلا تقعد عن إنكارٍ مشروع, ولا تتخوض مالم تأمرك به الشريعة.
الثالث: الداعي إلى سبيل ربه ولكن عبر التوسع فيما يراه وسيلة جاذبة للناس للخير الذي يدعوهم إليه, فيركب المشتبه, ويتوسع فيما اختُلف فيه, وينسلخ من ضوابط من أجازوا له ما هوي مرحلة بعد أخرى حتى تظهر عورة منهجه بعد سقوط آخر ورقة للتوت ولو من غيره ممن استنّوا طريقته, بل َربّما عصى ربه في سبيل طاعته! والله طيب لا يقبل إلا طيبًا, ولم يجعل هداية خلقه وطبّ قلوبهم وأجسادهم فيما حرّم عليهم, وليس كل طريقٍ للحق موصلٌ وإن نبل هدف سالكيه.
فقف إذن حيث وقف سلفُك الصالح, فإنهم عن علم وورع وحكمة وتوفيق كفّوا "فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون"
الرابع: المرء مع أسرته من زوج وذرية, فيسعى لأن يملأ أعمارهم بهجة وسرورًا, ويتذكر فصول الحب وحسن المعشر والرحمة والكرم ونحوها, ولكنه في غفلة هائلة عن النصح الحقيقي والشفقة التامة والحب الصادق الذي يفضي به إلى أن يأخذ بأيدهم إلى رضوان الله والجنة.
جميل جدًّا أن ترسم الضحكة والبسمة على محياهم شريطة أن تعمل على أن يستمر هذا معهم بعد رحيلهم عن هذه الدار الصغيرة الزائلة, فاعمل على رسم الهدف النهائي الأخروي وصِلْهُ بمباهج الدنيا التي لا تحلو أصلًا إلا مع طاعة الله. فإن رأيت فرعًا أمَّارًا بالسوء فاهتف به: "والآخرة خير وأبقى" "ورزق ربك خير وأبقى"
الخامس: المؤمن مع نفسه في حال زجرها أو إكرامها, فمن شق عليها بأطرِها على مسير لم تؤمر به, ولم يرفق بها في طريقٍ صالحٍ حتى كلّته وملّته, فحبس غريزته تأثّمًا دون إفراغها فيما سخّر لها خالقها من المباح, أو أطلقها حول الحمى, ثم أولجها الحمى, حتى إذا طرقت الحرام وألِفت العصيان لم يسمع لنداء الإيمان في قلبه ركزًا!
 وكما أن الإيمان لا يصح دون علم؛ فكذلك العلم لا ينفع دون إيمان, وتأمل كيف جمعهما ربنا بقوله: "قال الذين أوتوا العلم والإيمان"  
فإحسان العبادة غاية الصدّيقين, والرفق بالنفس مع الحزم معها وسيلة تحقيق هذا المقصد الأعلى بإذن ربنا الأعلى, ومتى طغت الوسيلة على الغاية هلكت الراحلة والراحل, والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.
ومضة: ضع يدك على فؤادك ثم اسأله: أي فؤادي، متى خفقتك الأخيرة؟!
اللهم اجعلها على الإيمان.
إبراهيم الدميجي
الاقتصادية
8/8/ 1435

aldumaiji@gmail.com

التبشير الليبرالي بالدولة السعودية الرابعة.. ماذا وراء الأَكَمَة؟

التبشير الليبرالي بالدولة السعودية الرابعة.. ماذا وراء الأَكَمَة؟



الحمد لله وبعد: فيُطلق مسمى الدولة السعودية الرابعة ويراد به واحد من أمرين:
 الأول قطيعة زمانية كما حدث مع الدولتين – المرحلتين - الأولى والثانية, ولكن هذا – منطقيًّا - غير مراد هنا لأننا لازلنا في ظل الثالثة ولم تنقطع بعد! فلم يبق إذن سوى القصد الثاني وهو: القطيعة المنهجية عقديًا وفكريًّا وأخلاقيًّا مع الدولة الثالثة, فهذا هو مرادهم وأمنيتهم, وقد ألمح منظروهم لذلك كثيرًا وصرّحوا تارات. وبالطبع فهذه القطيعة سيعقبها - في أذهانهم - قطع الصلة بسلطة الأسرة الحاكمة عبر مرحلتين:
 الأولى: بردّها لتكون ملكيّة تشريفية بلا سلطان ولا قيادة.
 الثانية: عبر هدم المؤسسة السياسية كليًّا وبناء هيكل سياسي وثقافي وقيمي ليبرالي جديد لا يمت بصلة لما سبقه!
لذلك فمسماها الذي وضعوه (السعودية الرابعة) لا يعدو أن يكن رمادًا للعيون القلقة والعقول المترقبة, فلا خير في فتنتهم هذه, فلا دين محفوظ ولا دنيا صالحة.
يا سادة: المسألة ليست إشارت بعيدة من هنا وهناك استدعاها الذهن المتوجس وأكمل فراغاتها بخياله, كلّا بل إن دخان الفتنة راء للعيان, ومن له أذنان فليسمع!
 وحملةُ ألويتها ليسوا هم من يُسمَّون بأصحاب الإسلام السياسي  أو الحركيين - وإن كان جملة من هؤلاء قد دخلهم ضلال بينّاه في غير هذا الموضع – بل إن موقديها هم أهل العلمنة, واعتبر ذلك بتأمل الركض الجاد السريع للتيار الليبرالي لترسيخ العلمانية عبر إخراج الدين والشريعة من الفكر السياسي والمنظومة السلطانية للدولة, حتى ينتهي الأمر بهم تلقائيًا لإفراغ الدين من سياسته الشرعية, ومن ثم يوصف من تكلم في السياسة من أهل العلم بالمروق عن مناهج السلف وجادة الشرع, وكأن الدين لا علاقة له بالسياسة, ولا بالأمور العامة للأمة.
 وأهل التغريب والعلمنة معروفون بالتوجه لتعرية البلاد من ثوبها الشرعي القويم ولباس فضيلتها السابغ, ثم سربلتها بزيوف عارية لليبرالية المتوحشة وإن لان إهابها ونعم ملمسها!
خطورة ذلك في التالي:
1-   أن هذا الفكر السياسي يستبطن فكرًا ثقافيًّا دخيلًا على أمة الإسلام, ويقوم على تراث وأصول غربية المنشأ والنتاج, وثمارها خلاف غاية الخلق الإنساني "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" فهؤلاء يريدون سلخ الناس من تدينهم الصلب الصافي مع إبقاء ما يحفظ مكياج المكر من حرية تديّن محدودة ومظلة قضاء شرعي لا يتعدى بعض الحقوق الشخصية, وغطاء أخلاقي هلامي لا يمس حتى حرية المومسات,بدعوى احترام الحريات الشخصية.
2-   أن سنن الله لا تتخلّف, وإن تأخّر وقوعها في نظرنا القاصر المقصّر فهو راجع إلى أسباب لم تكتمل أو موانع لم تزل, وكلٌّ بقدر الله وحكمته. "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا" وبالمقابل في الطرفين: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" إن خيرًا بخير منه أو شرًّا بعاقبته. ويا قوم: الوَحا فليس كل برقٍ خلّب!
3-   أن البناء القائم هو الأصلح للسلم الاجتماعي والرفاه الشعبي إن تم ضبطه بمعايير شرعية صحيحة وأيدي صادقة مخلصة, مع تسجيل أن هذا الحال الآني قد دخلته بذور فتنٍ في الدين والدنيا تحتاج لاجتثاث من يد ناصح موفق حكيم, فمظاهر التقصير في حفظ الحدود الشرعية والحقوق الشعبية لم تعد خافية, - وهذا بكل أسف - أحد مبررات المنادين بالدولة الرابعة التي يدغدغون مشاعر البسطاء ببشارتهم بعدلها ونزاهتها وشفافيتها, وبالطبع هي دعاوى نستطيع إسكاتها بترميم خلل بنائنا الذي دخلوا منه, حتى إذا سقط مبرر دعواهم سقطوا.
وهنا ننبه لأمر مهم وهو أنهم في ابتداء مطالبهم لا يكثرون الحديث فيما يغضب السواد الأعظم للشعب عليهم من النداء بتنحية الشريعة والإلزام بالتغريب الثقافي والسلوكي, فهذا وإن كان هدفًا حاضرًا واضحًا لديهم إلا أنهم يرون أن من الصالح لهم تأجيل الحديث فيه ريثما يرون قابلية الساحة لذلك (الوباء) أما المرحلة الراهنة فهي الكلام العام المجمل عن الحقوق والحريات ونحوها بطريقة رمادية حمّالةَ أوجه, فيلقون كلامًا يقوله الصِّدِّيق والزنديق, بلا تفصيل وإيضاح إلا لما لا بد منه لاختراق لُحمة الشعب وسُداه, ويأبى الله إلا أن تخرج من أفواههم من حين لآخر فلتات محرجة فاضحة, والغريب هو السكوت عليها ممن بسط الله يده!    
     لقد عانى الناس من حرب التغريب واللبرلة في الإعلام والعمل,والآن نخشى أن يدرك التعليم ذلك عبر تقليص مناهج التربية الإسلامية وعبر الابتعاث المنفتح غير المنضبط بالاختيار أولًا ثم بضعف المتابعة ثانيًا ثم بعدم تهيئة هياكل صناعية لاستثمار تلك العقول التي دربت والمعارف التي حُصّلت, وكأننا قد فشلنا في ايجاد تعليم عال ناجح ومحاضن تربوية عالية الكفاءة, فصرنا نتكفف غيرنا ليربي أبناءنا! حتى إذا عادوا لم يجدوا سوى وظائف إدارية لا تخدم تخصصاتهم الحيوية الدقيقة. 
4-   الديمقراطية فاسدة على مر العصور, وإن كانت في زمننا قد أصلحت كثيرًا من عيوبها, بل قد فاقت - بكل مرارة - كثيرًا من تطبيقات المسلمين! وليس العيب في الإسلام, إنما في الانحراف عنه, فكثيرٌ مما نراه هي نماذج مشوّهة لشرعته. أما الديمقراطيات الحديثة فإنها - وإن أصلحت جانبًا من الدنيا - فأنّا لها إصلاح الدين, فأساسها الذين تقوم عليه هو المادية المطلقة. وهذا أمر لا بد أن يكون واضحًا بين عيني كل من يعاني أمر السياسات وفقه المقارنة بينها.
إن المتتبع لحال دول العالم عبر التاريخ يرى أن كثيرها قد تأرجح - في متوالية حقيقة بالدراسة والتعجب - بين استبداد مطلق ألجركي أو فردي شمولي ديكتاتوري وديمقراطية بحرية شبه فوضوية. فالأول يثمر الأمن والسلم مع خنق الحريات وسلب الحقوق, والثاني بضده حلاوة ومرارة, أما الإسلام فقد جمع حسنتيهما في نظام متسق فريد "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"
ومن طرائف الحكم الشمولي أنه في العادة محتاج لدين يفيء إليه الشعب, ويحمي قواد البلاد من الثورة عليهم بصفتهم حماة للمعتقد ومناصرين لما يعبد ذلك الشعب أيًّا كان ذلك المعبود! وهذه حقيقة ثابتة في علم الاجتماع السياسي.
وملاك القول تكرار زبدته: وهي أن هؤلاء الذين يبشرون بالدولة الرابعة لا بد أن لهم إيحاء وتوجيه من الشرق أو الغرب ممن يرومون إبدال الدولة من جذورها بما فيها هيكل الأسرة الحاكمة, وتنفيذ هذا في العادة يكون تاليًا للمرحلة الاولى في حالة نجاح تلك المرحلة وإلا كان هو الأول وهي تالية له, فبينمها تلازم شديد بسبب معيارية العهد المقطوع بإقامة الدين من قبل كل وال منهم, فمبرر بقاء هذه الأسرة على العرش الملكي, هو هذا المنهج السلفي الأصيل, لذلك فعلى قدر بعدهم عنه يكون ضعف الارتباط الولائي للشعب بهم.
 ويعظم الخطب حين يتبنى بعض أفراد الأسرة سياسة هدم ذلك البناء بنقض الميثاق العظيم الذي قامت عليه البيعة, فالشعب بأغلبية ساحقة مؤمن سلفي بالفطرة, ويحب السكينة والطمأنينة, ويكره تغير الحال واضطراب الأمن, وكلما رفع أحد عقيرته بالتغيير صاح به الشعب من كل جانب قائلا بلا مثنوية: قد بايعنا هؤلاء على الكتاب والسنة فلن يكون الانتقاض من جهتتا, فمن وفى وفينا له, ومن نقض فعلى نفسه, فالقضية قضية دين وآخرة قبل أن تكون حظوظ دنيا.
ومضة: من أسباب نشر معتقد أهل السنة والجماعة في العالم الرفاه المالي الذي امتن الله به على الدولتين السعوديتين الأولى والثالثة فالمال رافد مهم للدعوة إلى الله سواء بالكتب أو الدعاة.
إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com