السبت، 21 يونيو 2014

ولايات تنفيذية أم إقطاعات مِلْكية؟!

ولايات تنفيذية أم إقطاعات مِلْكية؟!



   (مقال تم منعه من النشر في الصحافة)
   عاش شبح الإقطاع في أوروبا ألف سنة يقتات على دماء البشر الضعفى وحريتهم وكرامتهم في ما يسمى بالعصور الأوروبية المظلمة, فيعطي الملك أجزاء من الأقاليم بأهلها لملاك يملكون الأرض وأهلها, ولا يجيز القانون حينها (لقطعان) البؤساء الخروج من تلك الأملاك, فهم من ضمن حيوانات المزرعة! بل يحق للمالك بيعهم مع تلك الأرض, وكان هذا أكبر أسباب ثورة باريس. 
   المضحك المبكي أن بعض مسؤولينا قد فهم – بلسان حاله - أن توليته للمنصب التكليفي هي تملك محض؛ فيحق له إذن أن يصنع في إقطاعيته ما يشاء!
   أن تكون محل ثقة ولي الأمر فترشح بتزكيات ومؤهلات حتى إذا تسنّمت رئاسة وزارة أو هيئة أو جامعة أو قطاع خدمي مما يمسّ المواطن في دينه أو عرضه أو معيشته أو أمنه أو ثقافته, ثم تتصرّف من علٍ وبلا قيد كأنما قطعت سرّتك فوق ذاك الكرسي وأخذت صكًّا من والدك بملكيّته فأنت تعود بنا حتمًا لعهود الإقطاع الذي يعامل البشر كأقنان أرض وعبيد خاتم!
   حينما يضرب المسؤول باللوائح المنظمة والقيود التراتبية عرض الحائط, ويتجاوز خارج إطاره التنفيذي المحدّد, ويوسع عامدًا الهامش المُعطى له - كي يتسم بمرونة أمام آحاد القضايا - ثم نراه قد أربى ذلك الهامش فجعله نصّا وأصلًا فاكتسح الناس بحدّته وفوضويته وتدخله فيما لا يعنيه وافتئاته على ولاة أمره وتعاليه على مرؤوسيه؛ فنحن أمام حالة مرضيّة تحتاج لتدخل عاجل ولو ببتر العضو المصاب بإعفائه أو وركنه.
 الأصل في المسؤول الناجح الستر على مرؤوسيه والدفاع عنهم أمام الناس, مع الحزم معهم والشدة فيما بينه وبينهم. فيكسب ثقة الناس في جهازة وثقة موظفيه به وحبهم له وللمؤسسة التي تظلّهم.
   الوزير فمن دونه ومن فوقه _ ياسادة _ هم موظفون وخدم للأمة ليسوا ملّاكًا لوظائفهم, وليس لهم مطلق التصرف فيها, بل يقيدهم النظام الذي لا يعدون أن يكونوا منفذيه فقط, وتلحقهم المسؤولية والمحاسبة بقدر فشلهم في مهمتهم.
   أن يأخذ المسؤول خلافاته العملية أو الفكرية مع موظفيه أو مواطنيه مأخذًا شخصيّا, فيلوي أعناق الأنظمة ويتوسع في السلطة فيجمع لنفسه السلطات الثلاث؛ فهذا خلل يستوجب تدخل من فوقه لأطره على العدل وكفّه عن بغيه وعدوانه.
   حينما يناصِحُ الغيورون من موظفي الجهة الحكومية مسؤولهم المباشر, ويذكرونه بالله, ويناشدونه إحسان عمله وتقوى الله فيه وفيهم وفي المجتمع, وكفّ عاديته عليهم في الإعلام بالتصريح والتسريب والتهويل والتهديد بالفصل بل والتعسف بالنقل وتشتيت آصرة الموظفين وأُسرهم, فيستنجد ذلك المسؤول بالأمن ويصوّر الأمر كأنه اعتداء على شخصه الوديع وتهديد لكيانه المستقيم؛ فهذا ليس من الرجولية والفروسية والشيمة في شيء, بل هو مكر يُعاب صاحبه ويعيّر إن أصرّ, وينبغي أن يسارع بالنظر في صلاحيته لمثل تلك الرتب.
   وكم من مفسد في ثوب مصلح ومحتسب للباطل لا الفضيلة, ومحتسبٍ في حاجة لاحتساب الناس عليه, ولا عجب أن سربل بالعار أشباهه حينما استجره شؤم ظلمه على من تدفع البلايا بعد الله باحتسابهم حينما اقتبس أدبيات الغرب الإباحية – ثم رماها بكل فجور على شعب من أطهر شعوب الأرض - وإن رغم أنفه ومن وراءه! -
   وحينما نرى مديرًا لقطاع تعليمي تربوي يتعامل في قطاعه كأنما هو إقطاعه, فيرفع ويخفض, ويقبل ويرد, ويمنح ويمنع, ويصنّف ويجرح, ويزكّي ويمدح, لا يرد قوله ولا يكفّ بغيه, ولا يكتفي بالقريب بل يرمى بشرره حتى من كان على هرم دولة إسلامية كبرى, فيقذفهم بلا بيّنة ولا برهان إنما هي إِحنٌ فكرية كالظلف وحتف صاحبته, فأحرج الدولة والشعب بأن أوهم أن هذا وأمثاله هم قادة الفكر والتربية والتوجيه! فنحن أمام ورمٍ حريّ أن ينتشر داؤه ويستفحل إن لم يُتدارك بإقالة وتحقيق.
   وحينما نرى أن القاضي يقتّر زمن التقاضي للثلث ويختلس الباقي, ومن ثم يسلق القضايا بلا رويّة, ثم يقول بلسان حاله: إن العبوس من مباهج القضاء ولوازم القسطاس؛ فهذا مطفف منكوس محتاج لإنزاله من برجه العالي لواقعه الخالي, فكما نقول: أكرموا قضاتكم وأجلّوهم, فكذلك نقول للقضاة: اتقوا الله فيمن استرعيتم عليهم, وويل لبعض قضاة الأرض من قاضي السماء.
   وحينما نرى وزيرًا يستبدل سعيه لتوظيف الرجال الذين ضج الفضاء ببطالتهم بمن كُفينَ المؤونة, ثم نرى هجّيراه في تطبيق الاختلاط المنظم المقصود بقوة سلطته, دون مراعاة لسياسات الدولة المرعية في صيانة العفاف وسد ذرائع الفساد.
   وحينما نرى مسؤولًا قد قلده ولي الأمر سنام التوجيه عبر الأثير المسموع والفضاء المرئي أو الصحافة ونحوها, ثم يختزل مخالفيه في قوقعة لا تكاد تًرى أو تسمع, بينما يتورم فضاؤه بمن كانوا على لونه وديباجته, فيصبّون على رؤوس المجتمع ما يخالف فطرتهم وسلامة معتقدهم وصفاء أخلاقهم؛ فنحن أمام قمعٍ فكري ووباء عقدي وحرب أخلاقية مستوجبة للوقوف حيالها بحزم وصلابة من لدن المسؤول الأول عن هذا الوطن العظيم. فلا بد من إعادة النظر حيال اختيار من خالفوا سياسته المحكومة بشريعة رب العالمين.
   ومن فروع ذلك حينما نرى من كان على رأس صحيفة أو قناة فضائية محسوبة على وطن الإيمان والفضيلة ينشر بجلَد وفجاجة ما يوافق ليبراليته بشتى الطرق المباشرة وغير المباشرة مهيئًا ومناصرًا لهدم الشريعة البطيء في نفوس المجتمع, ثم يضيق بالمنكرين عليه فيكتفي بإلماحات أو قصاصات لا تغني ولا تنفع, فيدلس عبر إبراز الباطل قشيبًا جميلًا فاشيًا, وإظهار الحق ضعيفًا منبوذًا متوحشًا.. ما هذا؟! وأين يذهب بنا هؤلاء؟! وللعلم فالمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا, وتمكين المبطل عائد على مُمَكِّنِه, إذ لو شاء أدّبه.
   وحينما نرى تورّمًا لحسابات المسؤول بعد توليته فإنا بحاجة لإعادة السنة العمرية بتفاصيلها: من أين لك هذا؟
   أما مجلس الشورى فقد صار موضع تندّر وسخرية خليق بها من كان راضيًا عن هزال مخرجاتهم, والصدمة تكون بحجم بلد إذا علمت أن هؤلاء هم مقدَّمُوه, ولكننا نظلمهم مرتين إن تناسينا طريقة تعيينهم ومقدار ثقل توصياتهم عند صاحب القرار.
   إن خطأ المسؤول وارد, وهو لا يخرج عن دائرة الممكن والمعتاد بحكم ضعفه او تقصيره مالم يكن ذلك الخطأ نوعيّا بخطورته أو كميّا بتكراره.
   وملاك القول عزيزي المسؤول: سيأتيك يوم تلتفت فيه للخلف فلا تجد إلا ذكريات تطرب روحك وتغنيها, أو تفطر قلبك وتبكيه, فاكتب بحالك ما تود رؤيته غدًا, واعلم أن كل شيء لغير وجه الله يضمحل, والسلام.
   إضاءة: إن الحياة - بحسَب أرسطو - تراجيديا مؤلمة لمن يشعر, وكوميديا مسلية لمن يفكّر. قلت: أحيانًا تمتزج حتى تكون كوميديا مبكية أو تراجيديا تُضحك الثكلى, فملهاتها تحمل مأساتها, ومأساتها تبعث مسلاتها! ولا تعجب ففي القوم أعجب!
إبراهيم الدميجي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق