الأحد، 12 نوفمبر 2023

مشاريعُنا الفكريّة محتاجة لثلاثة أشخاص

 

 

مشاريعُنا الفكريّة محتاجة لثلاثة أشخاص

 

الحمد لله وبعد؛ فإنّ أي مشروع علميّ او فكريّ أو حتى دنيوي مادّي مفتقر لثلاثية ذهنية أو واقعية، أي لثلاثة أشخاص يمتلك كل منهم موهبة تسدّ نقص الآخرَين حتى يكتمل مشهد المشروع نظريًّا، ويندر أن تجتمع الثلاث مواهب في شخص واحد، فجودة المشروع مطلب ليستتم بناؤه، ويؤتي أكله، وتُجنى ثمرته. وهي منقسمة للتالي: موهبة خيال إنشائي، وموهبة نقد تفكيكي، وموهبة منطق رياضي. وإلى بيانها بإيجاز:

الأول: شخص خيالي حالم، ليرسم الصورة العامة للمشروع، ويبدأها ويصنعها خالية من التفاصيل، لأنه في الأغلب لا يحسن رسم التفاصيل، إنما يكتفي برسم الصورة الجديدة المبدعة للمشروع أيًّا كان. لذلك فنحن نحتاج للشخص الثاني.

الثاني: هو الشخصية الناقدة المحلِّلة، وإن سمّاه بعضهم الفيلسوف (وأعني لباس الفيلسوف العام، وليس بالضرورة حقيقته، فالمقصود هو طريقة التفكير الحُرّ لا غير)، ونحتاج مشاركته هنا لأن طبع الفلسفة الهدم المُعلَّل لا البناء، لذلك نجد أن نجاح الفلاسفة يكون بالنقد الذي يصاحبه أغلبيًّا التفكيك والهدم، لذا فلا تعجب أن الفلاسفة في الأغلب ناجحون في الهدم وفاشلون في البناء، وقد يصح لنا القول: بأنهم أذكياء في النقد وأغبياء في البناء، لأن أسلحة الناقد أو لنتنزل ونقول: العقلية الملازمة لطبيعته الفلسفية تكون مسلّطة على رؤية تفاصيل التفاصيل للعيوب، وسهولة نقدها، وتيسّرها عليه، وهدم ما بُني عليها. وهذا باعترافهم أنفسهم.

لذلك فيسهل على الفيلسوف نقد مشروع فكري بصرامة حَدِّية، ومنطق ملزم، ولكنه يقف عند هذا الحد ويكتفي به في الأغلب، فإن هو حاول بنفسه أن يصلح ما هدم، أو أن يبني بديلًا صالحًا فشل فشلًا ذريعًا، وأتلف مشروع بنائه، ومزّق أرواقه مرّة تلو الأخرى، لعلمه بعدم قدرته على بناء شيء متكامل ذو قيمة عقلية سالمة من الإيراد المضاد، مع أن غيره من الناس قد لا يراها كذلك، وقد تكون جيدة، وهذا راجع لأنه بطبيعته النقدية الدقيقة يرى عيوب فكرته الجديدة أضعاف ما يراها غيره، فيصاب بإحباط وانكسار وإحساس مضاعف بالفشل، فينقلب على أفكاره البنائية تلك فينقضها بقلمه، أو يتلفها، ثم يدور في حلقة سوداويّة مفرغة.

وتأمل إتلاف ليوناردو دافنشي لأغلب مشاريعه قبيل انتهائه منها، وهو من رواد الفلسفة الفنية الجمالية قبيل إتمامها لعجزه عن التوفيق بين ما صنعه فنه وبين ما تخيله له مع كون الناس ينظرون للمتلَف الضائع من فنه أنه نادر وجميل، وهذا راجع لتلك العقلية القلقة المصرة التي تنحو إلى الكمال الواقعي وصعوبة التوفيق بين ماتراه العين ويراه العقل والخيال.

 لذلك فالأغلب على الفلاسفة هو الصقيع العقلي، والبرود العاطفي، والعجرفة الاجتماعية، والنهايات الحياتية البائسة، سواء بالعيش في وحدة وانطواء، أو انتهاء بالانتحار عياذًا بالله تعالى.

 وبالجملة؛ فنحن محتاجون لهذه العقلية النقدية في رؤية عيوب مشاريعنا أثناء التخطيط لها، ولكننا نكتفي منهم بذلك شاكرين، فقيمة كل امرئ ما يحسنه. ومع هذا فحسَنٌ جدًّا الاستفادة منهم في نقد البدايات، وتقييم المسار بدون الاستمرار مع خيطهم التشاؤمي في الأغلب. لذا فنحن مفتقرون للشخص الثالث.

الثالث: الرياضي المنطقي المُجرّد، فليس لديه خيال الحالم الذي يبتدع الأفكار الجديدة، وينشئُ التصورات المُستحدثة، ويصنع الفكرة من لا شيء، كما أنه سالم من النقد الحَدِّي الصارم، الذي يؤول الى الهدم بعد النقد المفصّل الدقيق جدًّ.

وعليه؛ فدور هذا الشخص الثالث ــ وأعني به الرياضي المنطقي ــ هو أن نعطيه المشروع الأولي للخيالي مع نقد الفيلسوف، فيسلّط النقد على البناء، ويكرّ النظر بتدقيق منظّم، حتى يخرج لنا بحلٍّ وسطي يؤلف بين ذينك الشريكين المتشاكسين، فيأخذ البناء ككتلة أولية، ويتجنّب العيوب التي بيّنها الناقد، ويربط بين الأشياء، ويؤلف بين المتقاربات، ويقارب بين المتباعدات، حتى يصل بنا إلى فكرة كليّة سليمة ابتداءً، ثم يرسم من بعد ذلك مشروعه البنائي المفصل، وينتهي بنا لمشروع متكامل قدر الإمكان.

فهذا الرياضي لن يستطيع لوحده صنع شيء، فليست لديه موهبة الخيال، ولا عقلية النقد العميق، إنما لديه موهبة العقل المنظم المنطق المتوازن، والصرامة الجامعة للمتوافقات وإن بدا لغيره استحالة ذلك، فانتهى دوره للربط والتحليل والجمع وإكمال الفراغات بحسب المواد التي قدمها السابقان: الخيالي والناقد، والله تعالى يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى).

فإن عُدِمَ أولئك الثلاثة لأيّ سبب؛ فلا أقلّ من تقمّص الشخصيات الثلاث في ذات واحدة قدر الطاقة، ومع التمهّل والدُّربة والأناة، وقبل ذلك الاستعانة بالله تعالى، والتوكل عليه، والصدق في بذل السبب المشرع؛ يكون الوصول بتوفيق الله تعالى ومنته. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، والحمد لله رب العالمين.

إبراهيم الدميجي

16/ 4/ 1445

aldumaiji@gmail.com

الثلاثاء، 7 نوفمبر 2023

هل غيرت الحرب فيك شيئا؟!

 *_هل غيّرت الحربُ فيك شيئاً ؟_*


 *_✒️أدهم شرقاوي ✍🏻_*


 *_[] إن كنتَ قد خرجتَ من الحرب بذات القلب الذي دخلتها فيه، فأنت تحت الأنقاض وإن بدا لك عكس ذلك! وإن لم تكن غيّرتْ فيك الحرب شيئا من قناعاتك، فقد دفنوك وأهالوا عليك التراب من حيث لا تدري !_*

*_[] هذا العالم كذّاب أَشِر، سخيف ومتناقض، يخفي عفنا تحت إنسانية مدَّعاة !_*

*_[] سيخبرونك أن الدببة القطبية في خطر، وأن عليك أن تقلق، وإلا فأنت منقوص الإنسانية !_*

*_[] وسيحدثونك أن فرقة من جيش ما أشقر قد لازمت الشاطئ تحرسه حتى تفرغ السلاحف من وضع بيوضها، وعليك أن تصفّق لهذه الرحمة الباردة، وإلا فأنت قاسٍ !_*

*_[] وسيحدثونكَ أن طبقة الأوزون ما زالت مثقوبة، وأن عليك أن تساهم برتق ثقبها ولو كلفك الأمر أن تأخذ إبرة أمك وخيطها، وتستأجر صاروخا فضائيا، وتتوجه لخياطته.. وإلا فأنت تعاني نقصا في التضامن مع إخوتك البشر، ولا تحفل بمستقبل الأجيال القادمة !_*

*_[] فإن حدث هذا فابصقْ في وجوههم وأخبرهم أنهم كذَّابون.. أخبرهم أن حياة أطفال غزّة أهم من حياة الدببة القطبية، وأنهم منافقون حين سكتوا عن طائرات الاحتلال الحربية وهي تبيدهم، بل هم من شجَّعوه وأطلقوا العنان لجرائمه. وحين يحدثونك عن حقوق الطفل اخلع حذاءك وارمهم به، فمن لم يكترث بحياة الأطفال من الأساس فليس له أن يحاضر في حقوقهم._*

*_[] وإن حدثوك عن حرية المرأة وحقوقها فاصفعهم على وجوههم، الكذابون كانوا يتفرجون على نساء غزّة وهُنَّ يتطايرنَ أشلاء.._*

*_أرجو أن تكون قد فهمت أنهم لا يعنيهم من حرية المرأة إلا فيما يتعلّق بتحررها من عفتها وحيائها وحجابها والتمتع بجسدها، وبث الأفكار النسوية المريضة لها، هذه هي قضيتهم، وما عدا ذلك فالمرأة هدف مشروع لقتلها دون رحمة أو انسانية !_*

*_[] وإن حدَّثوك عن حُريّةِ التعبير فقل لهم اخرسوا!. ألم يقطعوا الإنترنت عن غزّة لتُباد بلا شهود عيان؟ !_*

*_ألم يحذفوا منشوراتنا، ويُغلقوا حساباتنا في مواقع التواصل؟ !_*

*_إن حرية التعبير عندهم هي أن تُعبِّر عمَّا يؤمنون به، أما ما خالف أهواءهم فهو صوت نشاز يجب أن يتم إسكاته._*

*_[] وإن حدثوك عن تغيير المناهج لأن بعض آيات القرآن فيها تحرّض على العنف، فاتْلُ عليهم سورة الأنفال، وأخبرهم أن ديننا يدعوا إلى السلم ، وأن القرآن لا يحضُّ على العنف.. وان ما يحضُّ عليه كتابنا هو_*

*_(وان جنحوا للسلم فاجنح لها)_*

*_وان جنحوا عن السلم فقد قال تعالى:_*

 *_(من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)_*

 *_وان كل هذا القتل لاطفالنا ونسائنا وشيوخنا في غزة خاصة وفي بلاد المسلمين عامة لن يذهب سداً ، وإنَّ كل واحد منّا له بعد اليوم عندهم ثأر !_*

*_وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون_*

‏الجَدْب الكِتابي!

 

 

‏الجَدْب الكِتابي!

 

د. سليمان العبودي

 

ثُلَّة من الشباب الصاعد في معارج المعرفة قد جعل بين أنامله وبين الكتابة وحشة ومنافَرة، فتجده يستثقل للغاية جرَّ القلم ومصاحبته في دروب الفهم والتعلُّم، فقلمه منقبض عن الاسترسال بما يجول بخاطره من علوم واستشكالات وخواطر واستنباطات فضلا عن الأحاسيس والمشاعر والانفعالات والتي بطبيعتها التكوينية يخنقُها التجاهل، ويفتك بها الصدود، فتموت في داخله قبل أن تستهلّ، وتجهض قبل أن تولَد، وذلك مصير حتمي حينما حرمها فرصةَ النمو الطبيعي في رحِم الأوراق ومِهاد المسوَّدات ..

 

وتمضي على صاحبنا السنون تِباعًا وهو يستوحش امتشاق القلم واستدرار الذهن وتقليم زوائد الأفكار في حضرة الكراريس أو لوحات المفاتيح، أما أن تكون الكتابة ضمن عاداته الدورية التي لا يتخلى عنها بحالٍ فهذا أمر قصيٌّ بعيدُ المنال، إما زهدًا بهذه الوسيلة في التحصيل وعدم استشعارٍ تامٍّ بأهميتها في تجويد العلوم والأفكار أساسًا، وإما لظنِّه أنه إن لم يمتلك قلمَ فلان وفلان من الأدباء ومنمقي الجُمَل البديعة ومفذلكي الصياغات الرفيعة؛ فليس له أن يسلك هذا المجال الذي حكم فيه على نفسه حكمًا مسبقًا بالفشل، وهو حكم نهائيٌّ ناجز غير قابل للاستئناف والمراجعة، فيكتفي في مجال الكتابة والتحرير بالمتابعة والتجمهر والترقُّب؛ وإن اضطر للكتابة في مسوَّداته الخاصة أو في شبكات التواصل مثلا؛ بالغَ في الاختصار والاقتضاب والاكتفاء بطرح رأسِ الفكرة ومبدأ الاعتراض وعليك فهم الباقي!

 **

بل يحاول بعضهم إشعارك -من خلال الأخطاء المتعمَّدة في الإملاء والخط والعبارات العامية المقحمة- أنه على عجلةٍ من أمره وأنه الآن يكتب لك من رأس القلم بلا تحرير وتدقيق، وأنه لولا هذه العجلة لأفاض عليك من معارفه ونزح من بئر معلوماته نزحًا، وتمضي جميع مكاتباته وتعليقاته واعتراضاته على هذا النسق المتعجِّل؛ فتنقلب العجلة من كونها ظرفًا عارضًا له أسبابه المعتادة إلى سمة دائمة يتكئ عليها ما دام حيًّا!

**

والخاسر من كل ذلك قلمُه الذي يوشك على الموات، وخواطرُه التي لم تلقَ منه يوما ما حفاوةً وترحيب فأمعنت في الصدود والغياب؛ ومعارفه التي حصلها لكنها لم تتبختر مرقومةً أمام عينيه بعد، وأفكارُه التي لن تتحرر ذهنيًّا حتى تُعتقل ورقيا!

 

ومن الأوهام الشائعة لدى بعض المؤمنين بأهمية الكتابة اعتقادُهم أن الكتابة تتحصل فائدتها التامة في مجرَّدِ نقل ما في الذهن إلى الورق، أو نقل ما في الورق إلى ورق آخر، فهي مجرد تفريغ للبضائع العلمية بعربات المحابر، هذا وهم شائع يحجِّم مدى الفائدة من وسيلة الكتابة إلى الغاية، فتجد من يتوهَّم هذا التوهُّم يكثر في حسابه التواصلي وفي كراريسه الخاصة من الاقتباس والنقل المحض للمعارف، ويمرُّ عليه الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقدت في جوف أقلامِه نارُ عبارة!

 

ليس بهذا النقل المجرّد يلتمع الذهن بالمعارف، وإنما القلم النافع بحق هو الذي كان يقول عنه الخطيب البغدادي: (كان بعض شيوخنا يقول: من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ وليأخذ قلم التخريج).

وفي الجملة مَن اعتادَ أن ينقل نقلا مجرَّدًا ويقرأ في الكتب ليقتبس منها فقط، فإن عقلَه يفقد تدريجيًّا متعةَ الاستكشاف الذاتي، ومن جهةٍ أخرى تتعطل مداركه ليتحول ذهنه مع الوقت إلى مجرد أنبوب توصيل بين نقطتين! فالنقل المحض يبلِّد الأذهان، وقد شخَّص الحافظ ابن حجرَ حالة أحد هؤلاء الوراقين وسببَ فتور ذهنه وانتقاله إلى هذه الحالة المذكورة، فقال: (كان عديم النظير في الذكاء وسرعة الإدراك إلا أنه تبلَّدَ ذهنه بكثرة النسخ).

 

لقد كانت الكتابة لدى العلماء قديمًا وحديثًا من أعظم وسائل تحصيل العلوم وتحرير الأفكار وتقييد الخواطر وسوانح الأذهان، فمن الخطأ أن يستغني طالب العلم عن هذه الوسيلة العظيمة، لا سيما وقد أتاحت الأجهزة الذكية وشبكات التواصل بوسائلها المختلفة المجالَ الرحبَ للتَّسويد والكتابة وثرثرة الأقلام، فلئن اختار طالب المعرفة الصمت في موضع ما، فليسترسل في آخر ولو في مسوداته الشخصية التي ستغدو مع الوقت –إذا أحسن استغلالها- منجمًا لعقله وملاذا آمنًا لنمو معارفه، وحينما ينجح في جعل الكتابة ضمن حاجاته اليومية التي لا يستغني عنها فهو المستفيد أولًا وآخِرًا!

ليس المقصود تحويل الناس جميعا لكتَّاب؛ أو دفعهم إلى محاكمة المنقولات دون تمييز أو اقتدار؛ إنما المقصود تنمية الملكة إلى السقف الأعلى المتاح والانتفاع بوسيلة الكتابة المجانية التكاليف العظيمة النتائج في تحرير العلوم وتنمية الأفكار!