الثلاثاء، 7 نوفمبر 2023

‏الجَدْب الكِتابي!

 

 

‏الجَدْب الكِتابي!

 

د. سليمان العبودي

 

ثُلَّة من الشباب الصاعد في معارج المعرفة قد جعل بين أنامله وبين الكتابة وحشة ومنافَرة، فتجده يستثقل للغاية جرَّ القلم ومصاحبته في دروب الفهم والتعلُّم، فقلمه منقبض عن الاسترسال بما يجول بخاطره من علوم واستشكالات وخواطر واستنباطات فضلا عن الأحاسيس والمشاعر والانفعالات والتي بطبيعتها التكوينية يخنقُها التجاهل، ويفتك بها الصدود، فتموت في داخله قبل أن تستهلّ، وتجهض قبل أن تولَد، وذلك مصير حتمي حينما حرمها فرصةَ النمو الطبيعي في رحِم الأوراق ومِهاد المسوَّدات ..

 

وتمضي على صاحبنا السنون تِباعًا وهو يستوحش امتشاق القلم واستدرار الذهن وتقليم زوائد الأفكار في حضرة الكراريس أو لوحات المفاتيح، أما أن تكون الكتابة ضمن عاداته الدورية التي لا يتخلى عنها بحالٍ فهذا أمر قصيٌّ بعيدُ المنال، إما زهدًا بهذه الوسيلة في التحصيل وعدم استشعارٍ تامٍّ بأهميتها في تجويد العلوم والأفكار أساسًا، وإما لظنِّه أنه إن لم يمتلك قلمَ فلان وفلان من الأدباء ومنمقي الجُمَل البديعة ومفذلكي الصياغات الرفيعة؛ فليس له أن يسلك هذا المجال الذي حكم فيه على نفسه حكمًا مسبقًا بالفشل، وهو حكم نهائيٌّ ناجز غير قابل للاستئناف والمراجعة، فيكتفي في مجال الكتابة والتحرير بالمتابعة والتجمهر والترقُّب؛ وإن اضطر للكتابة في مسوَّداته الخاصة أو في شبكات التواصل مثلا؛ بالغَ في الاختصار والاقتضاب والاكتفاء بطرح رأسِ الفكرة ومبدأ الاعتراض وعليك فهم الباقي!

 **

بل يحاول بعضهم إشعارك -من خلال الأخطاء المتعمَّدة في الإملاء والخط والعبارات العامية المقحمة- أنه على عجلةٍ من أمره وأنه الآن يكتب لك من رأس القلم بلا تحرير وتدقيق، وأنه لولا هذه العجلة لأفاض عليك من معارفه ونزح من بئر معلوماته نزحًا، وتمضي جميع مكاتباته وتعليقاته واعتراضاته على هذا النسق المتعجِّل؛ فتنقلب العجلة من كونها ظرفًا عارضًا له أسبابه المعتادة إلى سمة دائمة يتكئ عليها ما دام حيًّا!

**

والخاسر من كل ذلك قلمُه الذي يوشك على الموات، وخواطرُه التي لم تلقَ منه يوما ما حفاوةً وترحيب فأمعنت في الصدود والغياب؛ ومعارفه التي حصلها لكنها لم تتبختر مرقومةً أمام عينيه بعد، وأفكارُه التي لن تتحرر ذهنيًّا حتى تُعتقل ورقيا!

 

ومن الأوهام الشائعة لدى بعض المؤمنين بأهمية الكتابة اعتقادُهم أن الكتابة تتحصل فائدتها التامة في مجرَّدِ نقل ما في الذهن إلى الورق، أو نقل ما في الورق إلى ورق آخر، فهي مجرد تفريغ للبضائع العلمية بعربات المحابر، هذا وهم شائع يحجِّم مدى الفائدة من وسيلة الكتابة إلى الغاية، فتجد من يتوهَّم هذا التوهُّم يكثر في حسابه التواصلي وفي كراريسه الخاصة من الاقتباس والنقل المحض للمعارف، ويمرُّ عليه الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقدت في جوف أقلامِه نارُ عبارة!

 

ليس بهذا النقل المجرّد يلتمع الذهن بالمعارف، وإنما القلم النافع بحق هو الذي كان يقول عنه الخطيب البغدادي: (كان بعض شيوخنا يقول: من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ وليأخذ قلم التخريج).

وفي الجملة مَن اعتادَ أن ينقل نقلا مجرَّدًا ويقرأ في الكتب ليقتبس منها فقط، فإن عقلَه يفقد تدريجيًّا متعةَ الاستكشاف الذاتي، ومن جهةٍ أخرى تتعطل مداركه ليتحول ذهنه مع الوقت إلى مجرد أنبوب توصيل بين نقطتين! فالنقل المحض يبلِّد الأذهان، وقد شخَّص الحافظ ابن حجرَ حالة أحد هؤلاء الوراقين وسببَ فتور ذهنه وانتقاله إلى هذه الحالة المذكورة، فقال: (كان عديم النظير في الذكاء وسرعة الإدراك إلا أنه تبلَّدَ ذهنه بكثرة النسخ).

 

لقد كانت الكتابة لدى العلماء قديمًا وحديثًا من أعظم وسائل تحصيل العلوم وتحرير الأفكار وتقييد الخواطر وسوانح الأذهان، فمن الخطأ أن يستغني طالب العلم عن هذه الوسيلة العظيمة، لا سيما وقد أتاحت الأجهزة الذكية وشبكات التواصل بوسائلها المختلفة المجالَ الرحبَ للتَّسويد والكتابة وثرثرة الأقلام، فلئن اختار طالب المعرفة الصمت في موضع ما، فليسترسل في آخر ولو في مسوداته الشخصية التي ستغدو مع الوقت –إذا أحسن استغلالها- منجمًا لعقله وملاذا آمنًا لنمو معارفه، وحينما ينجح في جعل الكتابة ضمن حاجاته اليومية التي لا يستغني عنها فهو المستفيد أولًا وآخِرًا!

ليس المقصود تحويل الناس جميعا لكتَّاب؛ أو دفعهم إلى محاكمة المنقولات دون تمييز أو اقتدار؛ إنما المقصود تنمية الملكة إلى السقف الأعلى المتاح والانتفاع بوسيلة الكتابة المجانية التكاليف العظيمة النتائج في تحرير العلوم وتنمية الأفكار!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق