الثلاثاء، 13 أغسطس 2019

الاستهزاء بالدين ردّةٌ عنه، وغيبة المؤمنين نقصٌ فيه

الاستهزاء بالدين ردّةٌ عنه، وغيبة المؤمنين نقصٌ فيه
الحمد لله، وبعد: فإن من أصول الإسلام تعظيم رب العالمين وإجلاله وهيبته وخشيته، ومن لوازم ذلك تعظيم شعائره وذلك شرط التقوى، قال سبحانه: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) وقال: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه).
وما من عضو بعد القلب أشدّ خطرًا من هذا اللسان، وما من جارحة أحقُّ بطول حبس منه، وإنه لعجيبة من عجائب خلق الله تعالى، ونعمة جليلة من أكبر آلائه، فبِهِ يكون البيان الذي نبّه ربُّ العزة لجلال شأنه بقوله: (علمه البيان).
فبه لسانًا وبَنانًا يُعرب عن مكنون ضميره ورغائب نفسه، وبه يطلب حاجته، وبه يعبد ربه ويدعوه ويلهج بذكره وشكره. فهو من أعظم وسائل رضى الله عن عبده لمن أحسن استعماله في طاعته.
وبالمقابل فهو هاوية لا قرار لها إلا في دركات الجحيم لمن أطلق عنانه بالكفر والشرك ومساقط غضب الجبار جل جلاله، وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم". وتأمّل: "لا يلقي لها بالًا"! إنه اللسانُ، ذلك البَنَّاءُ العجيبُ للحسنات، والهادمُ لها!
 من هنا يتبيّن للمؤمن خطر هذه الجارحة التي تسمّى اللسان، وفي زماننا – زمان الكتابة – أصبح القلم أحد اللسانين، فاحفظ لسانَيك لعلّك تنجو. ولا يكن لسانُك: كحسامِ السيف ما مسَّ قطع!
وإن كان بغيُ السِّنان مُعطِبٌ فإن مبدأه اللسانُ، وكم في المقابر من قتيلِ لسانه، ومَن سلّ سيف بغيِ لسانه قُتل به، وعقلُ المرءِ مدفون بلسانه، فاللسان غطاء العقل، فمتى نطق انكشف الغطاء، ولكل عملِ جارحةٍ غدًا من الله طالبٌ وسائلٌ، فهل أعددت جوابًا صوابًا؟!
ولا بد للمؤمن أن يعرف حدود ربه حتى لا يتجاوزَها عن جهل أو جهالة، ولقد أَوْلَى أهل العلم مناهي الشرعِ في الألفاظ عناية تامّة، لأن اللسان مؤاخذ بنطقه ومسؤول عن كلامه (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
ولا بد للمؤمن أن يعرف حدود ربه حتى لا يتجاوزَها عن جهل أو جهالة، ولقد أَوْلَى أهل العلم مناهي الشرعِ في الألفاظ عناية تامّة، لأن اللسان مؤاخذ بنطقه ومسؤول عن كلامه.
ومما يحزن قلب المؤمن ما يراه من تساهل بعض الناس في شأن الاستهزاء بالدين وشعائره، مع أن ذلك من موجبات الردة عن الإسلام عياذًا بالله تعالى، قال في شأن المستهزئين بالدين: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). وتدبّر كيف أثبت لهم إيمان ثم كفروا بكلمة! قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: "إنما كنا نخوض ونلعب" ما يلتفت إليه رسول الله، ويقرأ: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون..) الآية. قال الإمام المجدد: وفيه أن من الأعذار ما لا يُقبل من صاحبه.
وقال العلّامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: من كان ديدنه قول: المطاوعة كذا وكذا. فهذا يخشى عليه أن يكون مرتدا، فلا ينقم عليهم إلا أنهم أهل طاعة.
وقال العثيمين رحمه الله: الذين يسخرون من الملتزمين بدين الله فيهم نوع نفاق، فالله قال عن المنافقين: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين).
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: من قال لآخر: يا لحية. وقصده السخرية فهو كفر، وإن قصد التعريف فليس بكفر، لكن لا ينبغي أن يدعوه بذلك.
وقال ابن جبرين رحمه الله: وقع كثير من الشباب في ردة جماعية، وقد دخل عليهم الشيطان من بابين: ترك الصلاة، والاستهزاء بالدين.
فاحفظ لسانك إن رمت النجاة، واعلم أن من أعظم أسباب حفظ اللسان: دوامُ ذكر الله تعالى، فالذكر يملأ فراغ القلب بتعظيم العظيم، ويشغل اللسان بالأمر العظيم، حينها يرى صاحبُه نفاسة عمره فيحفظه. (ولذكر الله أكبر). والذكر هو اتصال البال بالله تعالى بأي وجه كان، بالقلب: تذكُّرًا وتفكُّرًا واعتبارًا، وباللسان: بالقرآن والأذكار وقول الخير، وبالأفعال الشرعية.
 وللذكر مراتبٌ وتفاضلٌ: في أنواعه وأفضلها القرآن، وأحواله وأشرفها السجود، وأزمنته وأطيبُها السَّحر، وأمكنته وأجلّها عَرَفَة، والدين كله ذكرٌ، وضدُ الذكرِ الغفلة.
 فعلى المؤمنين بعامّة وطلبة العلم خاصّة الاعتناء بحراسة اللسان من فخّ إبليس في المجالس: الغِيبة. فهي من كبائر الذنوب، مع ذلك فحال كثير من الصالحين معها كالمستحلّين لها بالحال لا بالاعتقاد، خذلانًا وخيبة!
 فالنفس تستروح لتنقّصِ الناس لتستريح من لومها على تقصيرها، وهذا الإسقاط الخفي إن لم يتداركه الناصح لنفسه في نفسه فإنه يستفحل به حتى يأكل حسناته بكيل مظالم العباد. وقد قيل: القلوب كالقدور في الصدور، تغلي بما فيها، ومغارفُها ألسنتُها، فانتظر الرجلَ حتى يتكلم، فإنّ لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلو وحامض وعذب وأجاج.
لقد توسّع بعضهم في التساهل في الغيبة بما لم تُبحه الشريعة، فالأصل الثابت هو حرمة العرض المسلم، فلا يباح خرق هذا الأصل إلا على برهان من الشريعة، وليس كلّ من زعم أنه يحذّر من بدعةٍ محقّ في تحذيره ولا مستنٌّ في أسلوبه وطريقته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ". متفق عليه.
  وكذلك حمّالةُ حطب السيئات: النميمة. وبعضهم ينمّ ولا يشعر ظانًّا أن النميمة لا تكون مذمومة إلا إن كانت بقصد سيء، وما علم أن النميمة هي نقلُ الكلام على وجه الإفساد بأي وجه كان، فكم من ناقل كلمة على وجه المرح والتفكّه أفسد مودة القلوب وأحيى ميت العداوات، كيف إن صحبها مكر ودناءة وسوء طوية. ومن حمل إليك حطب نميمته في الناس، فاعلم أنه سيسلخك قريبًا في قدورهم.
 ومن جعل قلبه وعاءً لاستقبال النمائم، وساعدها بأجنحة سوء ظنونه بالناس؛ فليبشر بخراب مدينة سروره، واضمحلال هناءة عيشه، فالعَضْهُ نفّاخةُ فتن.
 ففتّش صحيفتك ونقّها اليوم قبل نشرها غدًا، ونقّ سريرتك الليلة قبل ابتلاء السرائر غدًا، وتذكّر قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمّام". ولما مرّ بقبرين قال: "إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير! بلى إنه كبير: أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة.." متفق عليهما.
ومن بوائقِ الألسن: التنابزُ بالألقاب بغيًا وعدوانًا، ويكأن زماننا هو زمان هذا النوع من البغي، والله المستعان. ولما قال رجل لصاحبه: إني لأرحمُك مما يقول الناس فيك؟ قال: أفتسمعُني أقولُ فيهم شيئًا؟ قال: لا، قال: إياهم فارْحَم.
فاعتقل قلمَك ولسانك في محبس حكمتك وعقلك وورعك، ولا تُطلِقْهما إلا بخير، وفكّر واعتبر بمآل خطواتك قبل الإقدام، وصوّب قراراتك قبل انطلاق السهام.
وإن أردت الإحساس بحلاوةِ الإيمان وتذوُّقِ لذة العبادة والانتعاش ببرد اليقين واستشعار نور الصدر ودفئه وانفساحه فانشغل بما يفيدك في المعاد، وبما هو من مهمّاتك الأوّلية وما خلقتَ من أجل تحقيقه.
وتدبر حال أهل الجنة: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) لمّا طهّرُوها في الدنيا بيّضها لهم يوم لقياه ورؤيته، وأذلّوها له بالسجود في الدنيا فأعزّهم في دار كرامته. فابحث – وفقك الله - عن نعيمك المرتقب وسعادتك اللذيذة في سجدة خاشعة طويلة تغسل فيها همومك وتبخّر من صدرك غمومك: (اسجد واقترب).
ومتى تعلق المؤمن بكلّيته بربه، وفوّض إليه كل أمره، وقطع عن قلبه كل حبال الرجاء بالخلق ويأس منهم ووثق بربه؛ فهو حريّ حينها بكرامة الله له ولطفه به، فسلّم أمرك للسلام.
 فإذا تبصّرت مواقع رُشدك وعواقب غيّك، وانتبهت لعيوبك وأبصرتَها، وحرستَ قلبَك وطهّرته، وحصّنت عقلك ونفسك بالعلم والحكمة ومعرفة دخائل النفس وحظوظها العاجلة الخفيّة؛ فستذوق حينها بلسان قلبك حلاوة ثمار الإيمان، وستبتهج بحياتك في رياض القرآن، وستذوق نعيمًا في الدنيا وهو في حقيقته رقيقةٌ من نعيم الجنان، والله الموفق وهو المستعان وعليه المعوّل والتكلان.
إبراهيم الدميجي

مرضُ الجسد، نِعْمَ الصاحب للآخرة

مرضُ الجسد، نِعْمَ الصاحب للآخرة
الحمد لله وبعد، فالمؤمن يرى الأمراض نعمًا لا عذابًا، هو لا يطلبها بل يسأل ربّه العافية، لكن إن نزلت به صبر ورضي وشكر. فأسقامُ الجسد على ثلاثة أنحاء: فمنها العارض وأعظمه الحُمّى -أمُّ مِلْدَمٍ -فهي تدخل كل عضو وتفورُ في كل مفصل، فهي كفارة طيّبة للخطيئات.
 الثاني: أمراضٌ ملازمة تحل معه وترتحل، لا تفارقه في فراشه ولا طعامه ولا لذته ولا عبادته كالسكر والضغط والعاهة ونحو ذلك من الأسقام التي يسمُّونها: الدائمة، فهي نِعْمَ الصَّاحبُ والرفيقُ في الطريق للآخرة، فالجسدُ يتأقلمُ ويتعايش معها على طول السنين، فلا يتأذى بها كشِدَة العارض النازل، مع ذلك فهي تنظّفُ صحيفته وتُنقّيها على مرّ الأيام من الذنوب، حتى إذا وافى العبدُ ربَّه إذْ كثير من خطاياه قد زالت بسبب تلك الأسقام في دنياه.
والثالث: الأسقام المُفضيةُ للوفاة بإذن الله تعالى، فمنها ما هو شهادةٌ لصاحبها، ومنها دون ذلك، وكلها خير ونعمة لمن احتسب الأجر ورضي بالله ربًّا مدبِرًا، وحمدَهُ على كل حال، وشكره على كل فضل. وبالجملة: فالمؤمن يعلم أنّ المصيبة كفارة للسيئات ورفعة للدرجات، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة. وقال إبراهيم المقري وقد رفسته بغلته فكسرت رجله: "لولا مصائب الدنيا؛ قدمنا على الله مفاليس".
والمرضُ لا يُقرّبُ الأجلَ، ولا الصحةُ تدفعُهُ، إنما هي أسبابٌ مجرّدة، أما المُسَبِّبُ الخَلّاقُ الذي يُنزل الداء ويرفعُهُ ويُحيي ويُميت فهو الله وحده، فالمؤمن يبذل السبب وقلبه معلّق بالله تعالى. حتى من أصيب بمرض خطير كالسرطان فهو بين إحدى الحسنيين؛ شفاء أو شهادة بإذن الله، لأنّه إن لم يدخل فيه بالنص كالطاعون والمبطون ومريض ذات الجنب؛ فهو داخل بالمعنى للعلل التي ذكرها العلماء في توصيفهم لأمراض الشهادة.
ومن رحمة الله بعبده أن تأتيه رسلُ ربه كالأمراض الخطيرة، فتلمح له بقرب رحيله إليه، فيستعد للقاء الله ويشتاق بتوبة وعمل، ويتخفّف من كدر الدنيا لراحة الآخرة، وينفض عن ظهره أوزار الخطايا ومظالم العباد، إنما الفاجعة بموت الفجأة، والله المستعان.
إبراهيم الدميجي