الثلاثاء، 18 مارس 2014

استدراج الثقافة الشعبية إلى الأجندة اللبرالية

استدراج الثقافة الشعبية إلى الأجندة اللبرالية
05-11-1434 06:22

موقع المثقف الجديد _محمد عبدالله الهويمل:

تبقى الثقافة الشعبية محضناً ومستودعاً لأنماط متوارثة تم إنتاجها في ظروف عصية على التحديد والجزم، وهذا ما يجعل فهمها والسيطرة عليها وتوجيهها أمراً بالغ الخطورة والصعوبة، فهي أرتال من القيم برزت كحاجة إنسانية على شكل وسائل تحوّلت كثافة الاستخدام لها إلى غايات في ذاتها منبتة الصلة بغايتها النفعية الأولى، فالشجاعة ذات غاية إجرائية لحماية الفرد والجماعة، ثم استحالت من قيمة إلى ذات يطّرد فيها ما يطّرد في مشخصات الأفراد وماهيّاتهم.
فهذه الفوضى في البناء المحصن بهوية القبيلة والفئة جعل منها نظاماً صارماً غير قابل للاجتراح أو التعديل أو حتى أبسط أشكال النقاش....إذاً لا فضل لأيٍ كان على هذه الكينونة إنشاءً وتوليداً وتماسكاً وصيرورة وحتمية، وبات هذا الطابور المنتهي إلى كيان مستقل بذاته ولذاته استقلال توجّسٍ وحذر, بل واستخفاف من كل مشاغب يحاول التحرّش بأي معنى فرعي من ثقافته، ولا يقبل أي لون من الندّية إلاّ من طرف يماثله قوة ثقافية ومعنوية تتقاطع مع أبجدياته وأولوياته الوجودية والأخلاقية تقاطعاً يشعره بحضوره على ساحة الفعل الإنساني، وأنه خيار حيّ من خياراته يتكامل مع آخر لا يزيد أو يقل عنه، فلم يكن إلاّ الدين بوفرته الأخلاقية والكيانية والتنظيمية الهرمية الجادة ليحدث نقلة نوعية في التعامل الديني القبلي الشعبي، وحدث الانسجام المبكر بين طرفين فاعلين تفاعلاً على نحو إيجابي لتأسيس جغرافيا دون المساس بالتاريخ، عن طريق تفعيل المشتركات التي شكلت نظاماً مهماً لهما، فلم يبد الديني أي حذر من الشعبي القبلي، بل بلغا حداً من الانسجام أفضى إلى تحوّل بعض الكيانات القبلية إلى دينية محضة في بعض حقب التاريخ القديم والحديث، وظهر فيما بعد ما يُسمّى بالإسلام القبلي أو الشعبي؛ إذ صعد الدين إلى الأولويات فاعلا مهماً في تنميط السلوك.

غير أن ثمة ساحات فاغرة وفارغة داخل هذه المشتركات الشاسعة بقيت غير ملونة، تتعاقب عليها أمزجة وقيم نفعية تأخذ منحى فئوياً أو شخصياً خالصاً، غير منجذب إلى نواة دينية أو قبلية، لكنها من الخيارات الحرة داخل الخطاب الشعبي تتسم بالضعف أو المرونة حد الاستقطاب الغافل أو المتغافل، لاسيما أن الدين لم يسيطر على القيم القبلية، بل عاد (الكرم) بوصفه قيمة قبلية عالية إلى عهده السابق قبل الإسلام، بعد أن دمجته النصوص النبوية في مشروع أسلمة القيم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، لكن ما لبثت أن ارتدت إلى النفعية الجاهلية المتمثلة في الحفاظ على الصيت والتفوّق في المنافسات والمفاخرات.

ما سلف ينعش آمال الليبراليين في إمكانية الاستثمار في هذه المساحة الحرة من خطاب القيم الشعبية بتحييدها ضد الأسلمة، ومن ثم استمالتها إلى أجندة إنسانية أو إنسانوية تحرر المعطى الأخلاقي الإيجابي في الممارسة الشعبية من الخلفية الدينية إلى خلفية حرة اختيارية ليس للأسلمة أو الدين نفسه فضل على فاعليتها، كالترابط الاجتماعي عند القبيلة والمجتمع، بل هو حالة حتمية طبيعية لا تستغني عنها المجتمعات اللادينية.

ولكن كيف لليبرالي أن يستثمر في قيمة الترابط الاجتماعي إلاّ بتفسيرها والحكم بإيجابيتها وبفضلها على الوحدة الاجتماعية ككل؟ غير أن دوره لن يتجاوز التفسير والترغيب في هذه القيمة ترغيباً حذراً من اختطاف مجهوده في لبرلتها بأسلمة خاطفة سهلة بإحياء عنوان ديني جذّاب لا ينفك عن الوعي الشعبي، بل يضاعف الحاجة إلى تفعيل القيمة عبر نشاط إجرائي عيني تتحكم به عبارات قرآنية أو نبوية تتصدر فعل القيمة (الترابط) بـ (البر) أو (صلة الرحم)، أو قرآنية (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).

ويطّرد هذا الحذر الليبرالي من خدمة الأسلمة دون وعي في بقية القيم القبلية والشعبية، والملاحظ أنها (القيم) قابل بمجملها للأسلمة دون حذر على العكس من قابليتها كلها للبرلة، بل كل مشروع للبرلة قيمة شعبية قابل لانقلابها إلى أجندة الأسلمة، فكان حذر الليبراليين من استثمار الثقافة الشعبية المرنة مرونة إيجابية وسلبية، لاسيما أن الليبرالية الجديدة اتخذت موقفاً مبكراً وواضحاً تجاه هذه الثقافة متمثلاً في اتهامها باحتضان التقاليد والعادات اللتين تستفزان المشروع الليبرالي التغييري، ما ضاعف من السلبية والحذر تجاهها أوقعه أيضاً في تردّد في حسم علاقته وتكامله مع هذه الثقافة، فهي حيناً تظلم المرأة وتقف ضد حقوقها، وحيناً هي الفطرة الطهورية التي كان الناس عليها قبل الصحوة وتشدّدها(حسب رأيهم)، والذي سمح للسينما قبل ثلاثين سنة هي الفطرة قبل التشدّد في حين أن الذي حرم المرأة حقوقها هي التقاليد الحاضنة للفطرة، وهنا يتجلى العجب في أفضح صوره، وتبرز حالة القلق الليبرالي من هذا الشعبي الحليف العصي على الترويض، بل المخجل الذي لا يلبث في توريط الليبرالي في جدله مع الديني المتمرس في أسلمة الشعبي متى أراد، دون أن يقع في حرج ولو طفيف مع أسئلة الليبرالي تجاهه.

وكثيراً ما دندن الليبراليون حول الفطرة، ودشّنوا مشروعاً عملاقاً ومروعاً للبرلتها وعزلها عن تصنيفها الديني البحت الممتد من أن الإسلام والتدين وحده هو الفطرة، وما سواه فهو انقلاب عليها بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجازفت الليبرالية في إدراج الفطرة في سُلّم قيمها، فكان الاختلاط والطرب والرقص والتعارف بين الفتيات والفتيان والتزاوج بين أفراد قبيلة دون إلقاء اعتبار للشرط الديني كلها من الفطرة الإلهية الناصعة؟!! دون أن يراعوا أن هذه الممارسات الفطرية (حسب تعبيرهم) جرت في مراحل زمنية كانت المرأة تُظلم، ويُحجر عليها، وتُحرم حقها في الميراث، ويُفرض عليها الحجاب المرفوض ليبرالياً، وتزوج الفتاة القاصرة، وكل هذا تحت طقوس مجتمعية محكومة بإرادة أبوية مستبدة (حسب تعبيرهم أيضاً)، ومن هنا ينطلق السؤال الذي يضاعف حذر الليبرالي تجاه الشعبي..
هل لتلك المرحلة (ما قبل الصحوة) أن توصف بالفطرية مع تناقص قيمتي (الاختلاط) و(حجر الفتاة).. ؟ أيهما الفطرة وأيهما الإجرام في حق الفطرة؟ الليبرالي سيجهد في التوفيق والخروج من سمّ الخياط، أما الديني فإن الإجابة حاسمة وسريعة بل شكلت هامشاً فسيحاً في خطابه الإصلاحي، ولم يطلق الاسلامي على زمن محدد زمناً للفطرة؛ فالفطرة عنده حالة فردية لا تنتظم مجتمعاً بأكمله، فهو لم يصرح بفكرة (الفطرة) ويتورّط بها.
خلاصة ورطة الليبرالي مع الشعبي أنه تعامل بنفعية مع القيم النفعية داخل الخطاب الشعبي. فما وافق أجندته من أخطاء التقاليد كان فطرياً، وأخذه دون تحليل علمي ادّعاه كثيراً، فأخذ يلتقط القيم المناسبة بعشوائية المحارب القلق، فانتهى إلى ما انتهى إليه من عدم وضوح، من شعبي كان تحالفه معه من قبيل الاستقواء به لتحجيم حضور الديني في الوعي الاجتماعي..

يذكر أحد الكتاب في صحيفة (الشرق الأوسط) أن الليبراليين الصينيين مالوا مؤخراً إلى إحياء الثقافة الشعبية الكنفوشية بكل خرافاتها لإزاحة الحضور الشيوعي في الثقافة الصينية، لكن ربما ينجح الليبراليون الصينيون؛ لأن المقوم الثقافي والفاعل التاريخي مختلف، وهذا من ضعف وعي آخرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق