الثلاثاء، 18 مارس 2014

العلمانيون يخترقون تاريخ الطبري

العلمانيون يخترقون تاريخ الطبري
25-04-1435 06:21

موقع المثقف الجديد - عبدالواحد الأنصاري :

لا يكاد يكتب أحد الليبراليين أو العلمانيين أو المتفاكرين العرب مقالاً أو كتاباً يهاجم فيه تاريخ العقيدة الإسلامية الصحيحة أو شخوص الصحابة والتابعين وأزمنة الفتنة الأولى، وما حصل من الاختلاف والاقتتال والتفرق، إن في الأبدان أو في المذاهب أو غير ذلك، إلا ويحتج على أهل السنة والجماعة بما يجيء من روايات تاريخية في تاريخ الإمام الطبري رحمه الله. يكاد يستوي في ذلك الأدباء والمثقفون أو حتى من يرون أنفسهم مؤرخين، ممن يتناولون أزمنة السلف الصالح، بخاصة القرون الثلاثة، سواء من كتّاب الصحف أو من أصحاب المقالات العجلى، التي تتسابق على الصدور والتحول إلى كتب مهلهلة ركيكة يقتنيها النشء والأغمار في معارض الكتب العربية، فتورد عليهم الشبه وتقدح في ضمائرهم الشكوك.

وقد يجنح أحدهم إلى وصف الطبري إما بأنه صادق وبالتالي يجب قبول ما في كتبه من طعن على السلف ومنهجهم، أو بأن رواياته متناقضة وينبغي عدم التعويل عليها، وبالتالي فإن أهل السنة لا علم لهم بتاريخهم وماضيهم الذي يدعون التمسك به والوقوف عليه في كل صغيرة وكبيرة، ثم هو يحتج على أهل الاعتقاد الصحيح في الصحابة وفي السلف بأن عليهم أن يكونوا موضوعيين وينفضوا أيديهم من السلف الصالح الذين اقتتلوا وسالت بينهم الدماء واستغلوا الجانب العقدي لتمرير مصالحهم السياسية، وخضعوا للسلاطين، وحاربوا الفكر، وزندقوا الفلسفة، وكفروا التصوف، ووقفوا عثرة في نهضة العلم والإنسان، إلى غير ذلك من التهم الجاهزة.

وهذا كله للمتأمل المنصف إنما هو ناتج -من وجهة نظر هذه القراءة التي نقدمها- من عدم الإدراك الحقيقي عند هؤلاء لماهية المحتوى التاريخي وللجهل الشديد بالفروق بين آحاده وللجمود المطبق عن تفهّم بداياته وأصوله ومكوّناته، رغم أنهم يزعمون أنهم تعلموا ذلك وأدركوه أو اطلعوا عليه من كتابات مفكرين مثل العروي والجابري وأركون ونحوهما.

ونحن إذ نتعرض لهذه الإشكالات التي سببها ضعف الاستعداد الفهمي وفقر الأدوات العلمية عند هؤلاء فإنه ليس أمامنا سوى أن نحتسب الأجر ونطرح مقدمات تأصيلية يفترض بكل من يعرف "ألفباء" تاريخ العلوم الإسلامية إدراكها والاستقرار عليها.

فقبل كل شيء ينبغي لنا أن ندرك –كما لا يخفى على ذي علم- أن روايات التاريخ الإسلامي ليس نصوصاً مقدسة كالكتاب والسنّة الصحيحة، ولذلك يجب أن يتم التفريق فيها بين أنواع الروايات التاريخية:

الرواية الضعيفة.
الرواية الصحيحة لكن زيد عليها من الكذب ما زيد فيها.
الرواية الصحيحة لكنها تدل على انحراف أو خطأ اجتهادي لفرد أو مجموعة.
الرواية الصحيحة التي قد توهم التعارض بسبب التأويل الخاطئ وهي غير متعارضة.
الرواية الصحيحة التي ظاهرها أنها تتعارض مع رواية أخرى مثلها أو قريبة منها في الصحة وينبغي النظر فيهما بالطرق العلمية التي ينظر بها في الأخبار الصحيحة التي تتعارض في الظاهر.

ولنكتف في هذه الإطلالة المحدودة بالتعامل مع النوع الأول، لأنه أكثر الأنواع التي يوردها الكتاب الليبراليون والعلمانيون والمنتسبون إلى الفكر لتجريم الصحابة أو السلف أو التشكيك في العقيدة الإسلامية بأي وجه كان من الوجوه.

ولنأخذ على النوع الأول نموذجاً من النماذج، وهو نموذج الروايات الضعيفة في سياسة عثمان ومقتله بعد ذلك شهيداً رضي الله عنه.

إن ثمة تمهيداً يسيراً، مفاده أن الكتب التي ألفت في الفتنة بعامة كثيرةٌ، أكثرها مفقود، وهذه الكتب المفقودة عن الفتنة مؤلفوها مختلفو المذاهب والمشارب، فبعضهم أئمة عدول، وبعضهم مبتدع أو دجال معروف بالكذب، فإن أخبار الفتنة كثرت وتناقضت، وأدخل المبتدعة والمغرضون كثيراً إما بالوضع أو بالزيادة، كما أن بعضهم تدخلوا في التأويل وفسروا بعض الأحداث بما ينقص قدر الصحابة، وبعضهم أظهر بعض العيوب والأخطاء ثم فاقمها وضخمها.

ولاستجلاء بعض هذه الحقائق يهمنا أن نتحف القارئ بفائدة مضمونها أن المؤرخين الذين لهم مؤلفات التي ألفت في الفتنة بعضها ألف في مقتل عثمان رضي الله عنه، منهم أبو مخنف لوط بن يحيى صاحب مقتل عثمان، وهو شيعي هالك. ومنهم سيف بن عمر التميمي، صاحب كتاب الجمل ومسير عائشة وغيره، متهم بالزندقة. ومنهم محمد بن عمر الواقدي مؤلف كتاب الردة والدار، وهو ركن الكذب كما وصفه الإمام الشافعي، وغير هؤلاء كثير، لكن هؤلاء من أشهرهم.

ولأن كل علم يتأسس جديداً ويدخل فيه من الشوائب ما يدخله يستدعي جمعاً وتصفية، فإن من جاء بعد هؤلاء المؤلفين من علماء التاريخ وجامعي رواياته نقلوا لنا أخبارهم من أمثال: البلاذري، الذي جمع قسماً من أخبار أبي مخنف والواقدي، وأبو مخنف شيعي محترق، والواقدي يشنع على عثمان ويبغضه، ويزعم أن قاتل عثمان هو محمد بن أبي بكر.

وكما أن البلاذري يروي أخبار أبي مخنف والواقدي، فإن الطبري كذلك ينقل كثيراً من روايات سيف بن عمر والواقدي وأبي مخنف، فلأبي مخنف ما يقارب من ستمائة رواية في الطبري.

وبالنظر إلى التي ذكرت عن الفتنة فإن من أبرز رواتها:

أبو مخنف لوط بن يحيى، والواقدي، ومحمد بن السائب الكلبي، وابنه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهؤلاء ترجع إليهم كثير من روايات الفتنة بخاصة أبو مخنف، الذي روى من أول وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى خلافة يزيد، وهي من أحرج الفترات.

وقد تناول علماء الجرح والتعديل هؤلاء.

قال ابن حجر: لوط بن يحيى أبو مخنف إخباري تالف لا يوثق به.

وطعن في أمانته جمع من العلماء كيحيى بن معين والذهبي و ابن المديني و البخاري و أحمد بن حنبل
وقال ابن المديني: عندي عشرون ألف حديث للواقدي ما لها أصل، وإبراهيم بن يحيى كذاب، وهو عندي أحسن من الواقدي.
وأما محمد بن السائب الكلبي وابنه هشام فطعن عليهما بالزندقة ومقالات الكفر...إلخ.

والحال هذه، فإن فالطبري وغيره من مؤرخي السلفية حين يروون هذه الروايات التاريخية في كتبهم فإنهم يذكّرون بأنهم ينقلون ويجمعون تاريخاً عاماً يحشدون فيه حشداً كل ما وصل إليهم من الروايات بإسناداتها الدقيقة التي لا يشتبه شيء منها على المتخصصين، وهذا يقتضي بالضرورة أنهم لا يتخيرون منها الصحيح، لأن منهج الجمع الموثق بالأسانيد مختلف تماماً عن منهج انتقاء ما ثبتت صحته بأسانيده، ولهذا فإنهم لم يشترطوا على أنفسهم فيه أن لا ينقلوا إلا عن شخص غير متّهم بالكذب.

والحال هذه، قد يسأل سائل: فماذا كان إذن دور الطبري في تاريخه؟ وما المنهج العلمي الذي التزمه على نفسه حتى نستطيع محاسبته عليه؟


الجواب: إن دور الطبري في كتابه تاريخه كان جليلاً، وهو الجمع المستفيض للروايات التاريخية المروية في كتب التاريخ المفقودة بمختلف توجهات مؤلفيها، وروايات رجالها بمختلف اتجاهاتهم وأنواعهم بين المتبع والمبتدع والصادق والكاذب وما بين ذلك من أقسام عدة يعرفها أهل الفنّ المتصدّون له، إذ حوى تاريخ الطبري كتباً عدة مفقودة، وجمع روايات كثيرة متنوعة، ولكنه كان يبرز في كل ذلك رجاله وأسانيده، ويترك للعلماء بالرجال والأسانيد تصنيف هذه الروايات وفرزها وقبول الصحيح منها والتحذير من المكذوب منها حتى لا يظهر فيما بعد ويتفاجأ به الناس أو يستغلوه ضد أهل السنة والجماعة دون أن يكون لهم سابق علم واستعداد صدر في هذه الفترات الحرجة من روايات تاريخية متعددة مختلفة.

ومن تأمل واطلع على تاريخ التدوين في تلك المرحلة فإنه يدرك أن ذلك لم يكن مما يعيب الطبري أو غيره، لأن النهج العلمي في ذلك العصر كان يقتضي أن على من ينقل هذه الأخبار أن يسندها، وكانت لديهم قاعدة منهجية أن من أسند فقد أحال وبرئت ذمته، وكان هذا هو شعار الفترة، التي كان يعيشها الطبري.

ولهذا قال الطبري في مقدمة كتابه: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قِبَلِنا، وإنما أُتي من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا".

ومن هذا المنطلق فإن المنهج العلمي السائد في زمان الطبري، والذي تؤيده وتشدد عليه شرائط التدوين في عصر مما يجعل الطبري مستحقاً لأن يشكر على مجهوده الفريد، لما في صنيعه هذا من كشف لمصادر تلك المعلومات المغلوطة على الصحابة رضي الله عنهم التي تناقلها الناس من زمن الفتنة إلى يومنا هذا.

وطريقة الطبري هذه لم ينفرد بها، بل هي طريقة أهل عصره، من العلماء من أهل الحديث، وغيرهم، منذ القرن الثاني، فقد قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الطبراني: سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، ما يأتي:

"الحافظ الثبت المعمر... عاب عليه إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي جمعه الأحاديث بالإفراد على ما فيها من النكارة الشديدة، والموضوعات، وفي بعضها القدح في كثير من القدماء من الصحابة وغيرهم، وهذا أمر لا يختص به الطبراني، فلا معنى لإفراده اليوم، بل أكثر المحدثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين وهلمّ جراً، إذا ساقوا الحديث بإسناده، اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته، والله أعلم".

انتهى كلام ابن حجر.

فأين علمانيو العصر وليبراليوه وملاحدته من هذا الفهم, وهم ليس لهم علم بمنهج التأليف في عصر الطبري، ولا علم بصحيح الأخبار من سقيمها، ولا علم بجرح الرجال من تعديلهم، ولا علم بإجماعات الأمة في العقيدة ومسائل الشريعة؟ وقد فاتهم أن أهل السنة والجماعة كانوا أئمة التاريخ المعتمدين في التأريخ منذ الطبري مروراً بابن الأثير والذهبي ,وليس انتهاء بابن كثير، وكان العالم الإسلامي ولا يزال عالة عليهم في التاريخ، لصدقهم وأمانتهم وقوتهم العلمية في النقل والتحقيق، وأن التصفية الحقيقية للتاريخ الذي نقله هؤلاء هو ما كانوا يعتقدونه من عقيدة صحيحة، هي المعيار الحقيقي للتعامل مع هذه الأخبار، وليس ما في هذه الأخبار من تناقض هو المعيار لعقيدتهم كما يقلب المسألة أهل الأهواء والبدع من قديم الزمان إلى يومنا هذا، من مقلدة المبتدعة الذين يظنون أنهم يأتون بالجديد، وما هم سوى مناقضين للصدق بالكذب وللصحيح بالضعيف، وقديماً علم أصاغر طلاب العلم أنه لا يعارض الصحيح بالضعيف والمصدوق بالمكذوب، إلا جاهل أو مطموس البصيرة.

ورحم الله الطبري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق