الثلاثاء، 18 مارس 2014

برنامج دين ودنيا وزواج السعودي بالأجنبية.. صالح الحصين

مقالة منشورة في مجلة الأسرة العدد 65 شعبان 1419هـ

 في يوم الخميس الموافق 12 من جمادي الآخرة 1419هـ وبالصدفة شاهدت الدقائق الأخيرة من برنامج “دين ودنيا” في التلفزيون السعودي، وكالعادة في مثل هذا البرنامج فإن مشاركة الجمهور تكون عفوية وتلقائية، وبالتالي وتأتي استجابة للعاطفة وليس بالضرورة نتيجة للتفكير والمحاكمة المنطقية، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يتأثر أشخاص الحوار بهذه الشحنات العاطفية، فيخرج الحوار عن جو التفكير العميق وإعمال قواعد المنهج العلمي، والتزام الموضوعية.
وفي الدقائق الأخيرة التي شاهدتها من البرنامج كان الشحن العاطفي بين أشخاص الحوار والمشاركين من جمهور المشاهدين قد بلغ ثورته، فصدرت عن أشخاص عبارات خشيت أن تكون ممثلة لاتجاه في التفكير وليس مجرد استجابة عرضية وعفوية لموقف عاطفي يمكن أن يغض عنه النظر، وأن يتعامل معه على أنه مجرد كلام، وهذا ما أوجب تدوين الملحوظات الآتية:
أولاً: كان يمثل جانب العلم الشرعي في الحوار المعقود لبحث قضية زواج السعودي بالأجنبية، صاحب الفضيلة الشيخ محمد الدريعي وهو صاحب علم وورع وجهود مكثفة في الدعوة له  من المحبة والقبول عند الناس مالايحتاج مني إلى تعريف. وقد فهمت من كلام فضيلته حرصه على أن تتشدد السلطة التنظيمية في إجراءات منع زواج السعودي بالأجنبية بأكثر وأبلغ صرامة مما تضمنته الإجراءات الحالية في تنظيم هذه القضية، كما فهمت من كلام فضيلته – وأرجو أن أكون مخطئاً- إمكانية الفتوى بالتحريم الشرعي لزواج السعودي بالأجنبية بناء على أن هذا الأمر ضار بالسعوديات وأن الفعل الضار محرم فلا ضرر ولاضرار.

وبالنسبة للقضية الثانية أي مايتعلق بالحكم الشرعي

فإني أود إبداء الملحوظات الآتية:
1.لايحتاج فضيلة الشيخ إلى التنبيه بأن التحريم والتحليل قول على الله يجب أن يراعى فيه أقصى درجات  الحيطة والحذر، وإذا كان الحكم بناء على المصالح المرسلة -كما في قضية الحال- وعلى فكرة المصلحة والمفسدة، والمضرة والمنفعة فإن درجة الحيطة والحذر ينبغي أن تكون أبلغ، إذ كما لا يخفى على فضيلته من النادر أن يكون أمر من أمور الحياة خالص النفع أو خالص الضرر، وبالتالي -كما لايخفى على فضيلته- لايكفي وجود ضرر أو مفسدة  في الفعل ليحكم بتحريمه، ولا وجود نفع أو مصلحة في الفعل للحكم بتحليله، بل إن نهج الشارع الحكيم الموازنة بين المصالح والمفاسد والمضار والمنافع، وهذه الموازنة من جانب المفتي لايمكن أن تتم بعفوية أو استسهال، بل لابد من بذل أقصى مايستطيعه الإنسان من جهد للوصول إلى صحة الموازنة ودقتها، ولايتم هذا إلا بعد النظر إلى الموضوع من مختلف جوانبه وزواياه، وليس هذا بالأمر السهل اليسير على الإنسان الذي خلق ضعيفاً محدوداً بزمانه ومكانه وثقافته وعلمه، الإنسان الذي يحتاج إلى جهد وجهاد للتخلص من صفات “الجهول العجول الظلوم” كما وصفه القرآن الكريم.
2.كما لايخفى على فضيلة الشيخ أن من القضايا  قضايا هي بطبيعة الحال قابلة للتغيير، وهذه في الغالب يكتفي الشارع الحكيم فيها بالنص على القواعد العامة التي تحكمها، ويترك تفاصيل أحكامها للاجتهاد المتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والظروف، ولكن أموراً وقضايا أخرى عني  الشارع الحكيم بتفاصيل مسائلها للإنسان -مهما اختلف الزمان والمكان- ولم يجد مجالاً لتغييرها بالزيادة أو النقص أو التعديل والتبديل، وهذه الأمور تشمل العبادات كما تتناول أحكام الأسرة من زواج وطلاق وميراث.
فدعوى الإنسان أن له سلطة  إعادة تنظيم مثل هذه الأمور  وتعقيبه على أحكام الله فيها وتساهله في السماح بتعديل حدود الإباحة والتحريم في هذه الأمور عما رسمه العليم الحكيم اللطيف الخبير فتح الباب لشر مستطير لايهدد مجتمعاً معيناً فحسب، بل يهدد الإسلام. وقد شاهدنا في واقع الحياة من يدعو إلى عدم صيام العمال في رمضان بدعوى أن ذلك يؤثر سلباً على الناتج القومي العام، وسمعنا من ينادي بتقييد سفر مواطنيه للحج أو العمره بدعوى أن ذلك يضعف الاقتصاد القومي ويخفض موجود بلاده من العملة الصعبة.
ودائماً كان هؤلاء الدعاة إلى إباحة ماحرم الله أو تحريم ماأحل الله يستندون إلى مبررات طويلة وعريضة من المصلحة العامة -كما يقدرونها- وإلى تغيير الظروف والزمان، كأن الشارع الحكيم لم يكن عالماً بالمستقبل، ولا بتغير الظروف، ولا بتجدد تقدير الناس لمصالحهم تعالى الله، وماكان ربك نسياً، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

يزيد في وضوح هذه الملحوظة التالية:

أولا: في بعض بلدان العالم الإسلامي صدرت قوانين تعيد تنظيم أحكام الأسرة، زعم واضعوها الذين قالوا “إنما نحن مصلحون” أن تغير الظروف والزمان يوجب إعادة النظر فيما أباحه الله من تعدد الزوجات، فمنعت هذه القوانين التعدد بدراسات وبحوث وإحصاءات لإثبات أضرار نظام تعدد الزوجات، وأن المواطنات التونسيات أو العراقيات أو التركيات في حاجة إلى حماية القانون من أضرار ذلك النظام.
ورفعت قضايا أمام المحاكم الجنائية ضد من اتهموا بمخالفة حكم القانون، فلم يكن لهؤلاء وسيلة لإثبات  براءتهم  إلا أن يدعوا بأن علاقتهم بالمرأة الثانية وإن كانت تشبه علاقة الزوج بالزوجة من كل الوجوه إلا أنها ليست علاقة زوج بزوجة وإنما علاقة عشيق بعشيقة.
فإذا قال عالم من المملكة العربية السعودية في الوقت الحاضر إن الدراسات والبحوث أثبتت أن لزواج السعودي بالأجنية أو السعودية بالأجنبي أضرار، وأن الحاجة -في هذا الزمان- توجب حماية المواطنات السعوديات من الضرر، وبناء على ذلك توجد إمكانية للفتوى بتحريم مثل هذه الممارسات والعقاب عليها، فأي حجة وجيهة تبقى لمثل هذا العالم في أن يقول للسفهاء  من واضعي القوانين العلمانية إن لي دونكم الحق في إعادة تقويم ما أباحه الله في الزواج، وإن لي دونكم الخبرة بما يصلح للناس، ولي وليس لكم الحكمة في تقدير مدى حاجة المواطنات للحماية من أضرار هذا النوع أو ذاك من الزواج؟
ثانياً: كان الاتجاه في البرنامج كما بدا لي يظهر ميل أشخاص الحوار إلى تعديل التنظيم الحالي لزواج السعودي بالأجنبية بتنظيم أكثر تشدداً في التقييد وأكثر صرامة في العقاب، بحيث يقضي على ظاهرة الزواج المختلط أو يحد منها.
وفي هذا الصدد ينبغي الإيضاح بأنه جلي من قراءة نصوص التنظيم الحالي أن مجلس الوزراء عندما أصدر هذا التنظيم  كان على وعي تام بالخطوط الحمراء التي ينبغي له أن لا يتجاوزها في مثل هذا التنظيم سواء باعتبار القيم الحضارية الإنسانية وما توجبه من احترام الحرية الشخصية للإنسان أو باعتبار القواعد الشرعية الإسلامية وما توجبه من الحذر من التعقب على أحكام الله بالإباحة أو التحريم.
كان التنظيم الحالي حذراً من التجاوز على حرية المواطن الشخصية، واعياً بأن التجاوز على حرية الإنسان وحقه في الاختيار -دون مبرر شرعي- مصادم للتفكير العقلاني والسلوك الحضاري الإنساني، ومخالف لما يعلم بالاستقراء من أحكام الشرع من أن حرية الإنسان وكرامته وحقه في الاختيار ليست أخف في ميزان الشرع  من ماله الذي اعتبر العلماء أن حفظه وحمايته من المقاصد الأساسية والضرورية للأحكام.
ولذلك فإن قواعد التنظيم الحالي بعد أن تطلبت ترخيص الجهة الحكومية المختصة بزواج السعودي بالأجنبية، راعت ألا تقرر أي إجراء عقابي على مخالفة المواطن العادي بزواجه من الأجنبية دون ترخيص، واكتفت بإعطاء الجهة الحكومية المختصة السلطة التقديرية (وهي سلطة مقيدة بالمصلحة العامة وليست سلطة مطلقة) في أن لا تمنح المواطن الذي تزوج أجنبية دون ترخيص التسهيلات التي تمنح لمن تزوج بترخيص وخصت العقاب على الزواج المختلط دون ترخيص، بفئات معينة كالعسكريين والدبلوماسيين على أساس أن العسكري والدبلوماسي يدخل السلك العسكري والدبوماسي بحريته، ولايكون حينئذ إلزامه بهذه الشروط ومعاقبته على مخالفتها تجاوزاً على حريته واختياره.
وهذا بخلاف المواطن العادي الذي صار مواطناً بحكم ولادته أو بحكم القانون، لذلك فإن ماتضمنه التنظيم الحالي -في رأيي المتواضع- يعتبر الحد الأقصى لما يمكن -حضارياً وإنسانياً وشرعياً- أن يوضع من قيود على زواج السعودي بالأجنبية.
ثالثاً: في تبرير التشدد في منع زواج السعودي بالأجنبية كرر أشخاص الحوارالقول بأن هذا المنع تقتضيه المحافظة على نقاء أخلاقنا وتقاليدنا وتميز مجتمعنا. وفي هذا المجال ينبغي القول بأنه ليس من الوطنية الصحيحة، ولا من المصلحة الوطنية الإلحاح كما هو واقع -دائماً- على تغذية الكبرياء والغرور لدى المواطنين، وإشعارهم بتميزهم على الآخرين (بل أنتم بشر ممن خلق).
رابعاً: بالربط بين الملاحظات السابقة يمكن توجيه هذا السؤال: هل يمكن لأحد أن يفتي بناء على تغير الزمان والظروف، أو بناء على دعوى أن أخلاقنا -في الوقت الحاضر- من النقاء بحيث يغار عليها من أن تتلوث بزواج السعودي بالكتابية غير المسلمة فضلاً على الأجنبية المسلمة؟ هل يمكن لأحد بناء على ذلك أن يفتي بتحريم الزواج من الكتابية دون أن يكون  مصادماً للنص الشريف في آيات المائدة، راداً لحكم الله في إباحة المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلنا ..؟
وفي الختام أشير إلى أن الكلام السابق تركز على أمر جانبي يتعلق بالمنهجية وطريقة التفكير، وهو الذي استأثر باهتمام الكتاب وقلقه، ولم يتناول بصفة أساسية قضية زواج السعودي بالأجنبية ومناقشة حيثيات الحكم عليها، إلا أنه ينبغي الإشارة إلى أنه إن كانت عنوسة السعوديات ظاهرة ومشكلة يبحث عن حلولها فإن من التبسيط الساذج لهذه المشكلة أن يعتقد أن حلها بمنع الزواج من الأجنبية، فالقضية أعمق من ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق