الثلاثاء، 18 مارس 2014

قضية الحجاب بين الغلو الحقيقي والغلو المزيف.. صالح الحصين


الدول التي تسيطر على أحدث ما أنتجه العقل البشري أكثر تعصبا

الشيخ صالح الحصين

الشرق الأوسط : 24 – 01 – 2004
في الفترة بين 4 8/11/1424ه (27 31/12/2003)، انعقد في مكة المكرمة لقاء للحوار الفكري شارك فيه ستون مثقفاً من الرجال والنساء من مختلف الأطياف الفكرية في المجتمع السعودي، بغرض الدفاع عن قيم التسامح والتعددية، ومقاومة التطرف الفكري والغلو الآيديولوجي، وذلك تحت عنوان «الغلو في مقابل الاعتدال».
والمعنى الرمزي لاختيار مكة المكرمة مكان اللقاء المشار إليه، أن من خصائص الإسلام البارزة: الوسطية والاعتدال ورفض الغلو والتعصب الجاهلي، وليس أدل على أهمية هذه الخصيصة المميزة للإسلام من عناية القرآن الكريم بهذا المعنى، حيث تناوله في زهاء سبعين موضعاً وعبر عنه بألفاظ متعددة: الغلو، الإسراف، الاعتدال، والطغيان.
ولا غرو في اهتمام الإسلام بهذا الشأن، إذ شهد التاريخ دائماً على مبلغ الأذى الذي يلحقه الغلو بالإنسان، لكن الإنسانية لم تشهد في عصر من عصورها خطر الغلو كما تشهده في هذا العصر الذي (باتت فيه الظلامية ومعها التعصب يسجلان امتداداً في العالم)، بالرغم مما احرزته الإنسانية من تقدم في الفكر والتكنولوجيا، بل ان من المفارقات أن الدول التي تسيطر على أحدث وأشرس ما أنتجه العقل البشري من أسلحة الدمار الشامل تتميز بقدر أكبر من التعصب والتطرف والغلو الآيديولوجي مما يوضح عن الخطر المحدق بالبشرية.
ان مما يجسم خطر الغلو سهولة اندفاع الإنسان إليه، إذ لا يستطيع الإنسان في الغالب النظر إلى القضية نظرة شمولية، فيميل بطبعه إلى النظر اللامتوازن، ويشتد الخطر إذا اتصل الأمر بعلاقة الإنسان بغيره، ويتأكد الخطر من حقيقة أن الغلو يقترن بالعدوانية غالباً، حيث يكون الغلو مبرراً للعدوانية، أو تكون العدوانية نتيجة له.
ومن الملاحظ أن الغلو ليس عدو الآخر فحسب، بل هو عدو ذاته، إذ ينتهي في الغالب إلى التناقض مع أسس القضية موضوع الغلو.
ويقال عادة «إنه لا أضرّ على القضية من الغلو فيها»، وهذا صحيح، إذ إن الغلو يكشف جوانب الضعف في القضية، بل انه يعرّي ثغراتها في مواجهة الآخر.
أتذكر أنه في عهد خروشيف، وهو عهد ازدهار للشيوعية، كان يُقال إن الإعلام السوفياتي ينزعج من اشتراكية السويد المعتدلة، أو رأسماليتها المعتدلة أكثر مما ينزعج من رأسمالية أميركا الغالية، إذ يسهل عليه مهاجمة نقط الضعف في الرأسمالية الغالية، لكن نقط ضعفه تتعرى في مواجهة الاعتدال الاشتراكي أو الرأسمالي.
كان من الطبيعي ألا تغيب عن جو الحوار في اللقاء المشار إليه قضية الحجاب في فرنسا، حيث يحتدم الجدل حولها حالياً، ذلك أن هذه القضية في الحقيقة مثال نموذجي معاصر للغلو في مظهريه: الغلو الحقيقي، والغلو الزائف.
ويقصد بالغلو الحقيقي التطرف في الإيمان بآيديولوجية معينة، ويقصد بالغلو الزائف أن يكون الغلو الذي يظهر كتطرف معلن في الإيمان بآيديولوجية معينة، لباساً تنكرياً لتطرف خفي وغير معلن في الإيمان بآيديولوجية أخرى.
لإيضاح الفكرة السابقة، نذكر أن العالم الإسلامي حينما أفاق على تخلفه المريع عن الغرب، وفي سبيل البحث عن مشروعه النهضوي، كان من الطبيعي أن يقتبس فلسفة القيادة في العالم المتقدم، وهكذا تم اختيار نخبة الآيديولوجية العلمانية، وتسلمت هذه الآيديولوجية القيادة في مختلف المجالات: السياسية والاقتصادية، والتربوية والإعلامية، وبالرغم من عدم نجاح هذه القيادة في كل تلك المجالات، بل بالرغم من اخفاقاتها المحزنة لأكثر من مائة سنة فقد ظلت تحكم العالم الإسلامي باستثناء حالات نادرة، أما الإسلام الصحيح البريء من الغلو المقيت، فقد كانت حظوظه في مجال القيادة ضئيلة للغاية.
في المراحل التي وصلت فيها الآيديولوجية العلمانية القائدة إلى مستوى الغلو، لم يقتصر الأمر على العجز والإخفاق، بل تجاوزه إلى كوارث التدمير، والمعاناة المأساوية للإنسان.
كانت الدكتاتورية العضوض في العالم الإسلامي، خاصة العالم العربي، تقترن دائماً بالغلو في الآيديولوجية العلمانية، وقد ساعد على ذلك أن توليها للعلمانية لم يكن نتيجة الإيمان بمبادئ الحرية، وقبول التعددية، والاعتراف بحقوق الإنسان كما هو الحال بالنسبة لعلمانية الغرب الديمقراطي.
وبالرغم من أن هذه العلمانية الغالية كانت تبدي دائماً تسامحاً تجاه مظاهر التدين لدى الأقليات في بلادها، فقد كانت تتأذى أبلغ الأذى من مظاهر التدين الإسلامي أي دين الأغلبية، إذ كانت ترى الإسلام كمنهج شامل للحياة مهدداً لوجودها، وقد حظي حجاب المرأة المسلمة لأسباب متنوعة بعداء صارم، أذكر أني قبل سنوات كنت في زيارة لبلد عربي فراعني أن الشرطي الحكومي يقف على باب كلية الشريعة يمنع أي طالبة تلبس الحجاب من دخولها!.
لم يكن يزعج هذه الآيديولوجية العلمانية الغالية، سواد سجلها في حقوق الإنسان، بل كان يزعجها مقارنتها بالعلمانية المعتدلة في الدول الديمقراطية، لا سيما أن تلك الدول، وإن كانت في الحقيقة لا تشعر بانزعاج ضد تسلط تلك الدكتاتوريات ما دام موجهاً ضد الإسلام، فهي بين حين وآخر تظهر في صور من النفاق السياسي إنكارها لانتهاك الدكتاتوريات الصارخ لحقوق الإنسان، وحريته الشخصية.
كانت تلك القوى المتسلطة في العالم الإسلامي في تطبيقها للعلمانية، تبرز مثالاً واضحاً للغلو الآيديولوجي الحقيقي.
في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2003، ألقى الرئيس الفرنسي جاك شيراك، خطاباً أمام أربعمائة شخصية فرنسية سياسية ودينية، أعلن فيه تأييده لسرعة اصدار قانون يحظر الرموز الدينية في المدارس كافة، ويسمح بتطبيق المنع في أماكن أخرى كمواقع العمل، لا سيما تغطية المرأة المسلمة شعر رأسها.
كل من استمع إلى خطاب الرئيس الفرنسي لا يملك إلا الشعور بأن صيغته صيغة خطاب يوجه فقط في حالة من حالات المواجهة لازمة تاريخية. والحال حقاً، ان الخطاب يعبر عن مواجهة السياسة الفرنسية لتحد بالغ، لقد اضطرت أن تظهر بمظهر الغلو في الآيديولوجية العلمانية، وهذا المظهر وإن كان كما نعتقد لا يعبر عن غلو حقيقي، إنما يخفي غلواً في قضية أخرى، إلا أن الغلو الزائف كالغلو الحقيقي يواجه أزمة التناقض مع ذاته كما أشرنا سابقاً.
ان العلمانية الفرنسية كما ورد في خطاب الرئيس الفرنسي، هي (ضمان لحرية الفكر والضمير وحامية لحرية المعتقد، تؤمن لكل فرد إمكانية ممارسة شعائره، والتعبير عن إيمانه بكل طمأنينة وحرية، دون أن يجد نفسه تحت وطأة التهديد بأن تفرض عليه قناعة أو معتقدات أخرى)، (فالعلمانية الفرنسية كما يقول الرئيس بانفتاحها السخي تمثل مكمناً متميزاً للتلاقي والتبادل. فالحيادية في المجال العام هي التي تسمح بتعايش وانسجام متناسق بين الديانات كافة على أنواعها وشأن الحرية الدينية شأن كل الحريات الأخرى لا قيود للتعبير عنها إلا بحدود عدم المساس بحريات الآخرين، والاحترام والتسامح وروح التعاون تترسخ عبر تفهم الآخر والتعرف به) وهي الأمور التي أكد الرئيس الفرنسي على وجوب أن يوليها كل واحد أكبر درجة من الأهمية، لذا يرى الرئيس أن (التوسع في تعليم الدين في المدارس بات اليوم أمراً جوهرياً ورئيسياً).
لقد ظلت فرنسا لأكثر من قرنين وفية لأسس علمانيتها القائمة على مبادئ الثورة الفرنسية، ووثيقة حقوق الإنسان، ولا سيما رعاية تكافؤ الفرص، وحرية المعتقد وممارسته، وحق العمل.
والآن فقط ترى السياسة الفرنسية كما ورد في خطاب الرئيس (أن مبدأ العلمانية مبدأ قل ما يتم الاعتراض عليه، إلا أن كيفية تطبيقه تصطدم في عالم التوظيف والعمل كما في المؤسسات العمومية وبالأخص في المدرسة والمستشفى بصعوبة جدية متنامية).
لذلك فقد اضطر الرئيس الفرنسي في خطابه إلى أن يعتبر (أن ارتداء لباس أو أي علامات أخرى تشير جهاراً إلى الانتماء الديني يجب أن يتم حظرها في المدارس والمعاهد التكميلية والثانويات. إن كل تلك العلامات، أي الحجاب الإسلامي، أياً كان المسمى الذي يطلق عليه، أو القبعة اليهودية، أو الصليب ذا الحجم المبالغ به، لن يكون لها مكان في المدارس الحكومية العامة). ورأى (أن من الضروري وضع تشريع في هذا الشأن، كما أشار إلى تأييده صدور قانون يصرح لأرباب العمل وضع نظم خاصة بمسائل ارتداء علامات دينية وذلك عملاً باعتبارات لها صلة بالنواحي الأمنية أو لها صلة بالعلاقات مع الزبائن).
وذكر الرئيس في خطابه أن هذه الإجراءات عندما يصدر بها قانون لا تتعارض مع حرية الدين وممارسة شعائره، ولا تنتهك حقوق العمل، ولا تؤثر في تكافؤ الفرص أو تؤذي مبادئ الحرية والمساواة والإخاء.
لكن ما مدى الانسجام بين النصوص السابقة؟، بالرغم من أن من رواد العلمانية الأوائل من كان يعبر عن عدائه للدين بأنه يتمنى شنق آخر كاهن بأمعاء آخر قسيس، إلا أن العلمانية ظلت أكثر من قرنين لا يفكر أحد من المؤمنين بها أن حمل طالب وطالبة رمزاً دينياً ينافي العلمانية أو يشكل تهديداً لها، وكان يمكن أيضاً أن يمر أكثر من قرنين دون أن يخطر هذا المعنى ببال أحد لولا أن قضية غطاء المرأة المسلمة لشعر رأسها دخلت في مجال الانتباه.
وحينما أقدم مدير مدرسة ثانوية على طرد ثلاث طالبات مسلمات أصررن على تغطية شعورهن، تطورت الأمور حتى اصدر القضاء الفرنسي المعني بحماية القانون والدستور، حكمه المتضمن منافاة منع الطالبة المسلمة من ارتداء الحجاب الشرعي لمبادئ الدستور، ومبادئ القانون الطبيعي.
لهذا كان التوجه السياسي الفرنسي بغرض التغلب على هذا التطور والوصول إلى حظر غطاء الطالبة المسلمة رأسها أن يعتبره رمزاً دينياً، وتفادياً لعدم ظهور هذا التوجه بمظهر التمييز ضد الإسلام كان التكتيك لاصدار قانون يشمل بالحظر كل الرموز والشعارات الدينية كالصليب الكبير، والكيبا، لكن هذا التكتيك في الواقع لا يخرج السياسة الفرنسية عن مأزقها، فغطاء المسلمة رأسها لا يقع ضمن طائفة الرموز الدينية كالصليب والكيبا، لأن هذه الرموز لا تعتبر من الواجبات الدينية، في حين أن غطاء المسلمة رأسها يقع ضمن الواجبات والفرائض الدينية. والأمر واضح عند المسلمين كافة، وحتى سماحة شيخ الأزهر الذي أثنى وزير الداخلية الفرنسية على رأيه المتسامح في قضية الحجاب، صرح في فتواه بالنص على: «إن الحجاب للمرأة المسلمة فرض إلهي، وإذا قصّرت في أدائه حاسبها الله على ذلك، وأن المرأة المسلمة إذا خضعت لقانون دولة غير إسلامية يمنعها من ممارسة هذه الشعيرة الواجبة، فإنها تكون من الناحية الشرعية في حكم المضطر»، واستدل بقوله تعالى: «إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه»، ويقصد سماحته أن من اضطر لأكل شيء من المحرمات المذكورة في الآية إذا لم يجد غيرها وخشي من الموت جوعاً، فإنه لا يأثم في هذه الحالة، فالضرورات تبيح المحرمات، فسماحته يرى أن المرأة في هذه الحالة تكون في حالة إكراه.
ولا نعتقد أن الإدارة الفرنسية وإن أبدت سرورها بتسامح الشيخ الإمام، هي حقاً سعيدة بأن تظهر في صورة من يكره الإنسان على ارتكاب محظور من محظورات دينه. وهل هناك صورة للاضطهاد الديني، ولانتهاك حرية الإنسان في الإيمان بعقيدته وممارسته فرائضها أوضح من هذه الصورة؟
يزيد الأمر إشكالاً بالنسبة للتوجه السياسي الفرنسي، أن الصليب أو الكيبا أو نجمة داود، لا وظيفة لها سوى أن تكون شعاراً أو رمزاً تدل على انتماء الإنسان لدين معين وولائه له. أما غطاء الرأس للمسلمة، فله عدا كونه فريضة وليس مجرد رمز أو شعار، وظيفة أخرى هي حماية المرأة من الأذى بالتعرض للتحرش الجنسي، وهذا ما نص عليه القرآن، قال تعالى: «ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين» أي أن المرأة عندما تلتزم ما أمر الله به من الستر، يعرف أنها عفيفة فلا يطمع فيها من في قلبه مرض فالحظر الذي تسعى الإدارة الفرنسية لتحقيقه يمثل عدوانا على حق المرأة في حماية نفسها من أذى التعرض للتحرش الجنسي.
لما كان من غير المعقول حظر حمل الطالبة الفرنسية بعض الرموز الدينية كالصليب غير ذي الحجم المبالغ فيه بالنسبة للمسيحية، ونجمة داود بالنسبة لليهودية، كان لا بد من استثنائهما وخشية من الاتهام بالتحيز ضد الإسلام، فقد أضيف إليها الحلية التي تلبسها بعض المسلمات وتسمى (يد فاطمة)، وهذا مظهر من النفاق السياسي الطريف، لأنه لا يوجد وجه شبه بين الحلية المسماة (يد فاطمة) والصليب بالنسبة للمسيحيين أو نجمة داود بالنسبة لليهود، فباستثناء عدد محدود من المسلمين في إقليم معين، فإن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لم يسمعوا عن (يد فاطمة)، قبل ذكرها في خطاب الرئيس الفرنسي ونقل وكالات الأنباء للخطاب، لكن هناك نوعاً آخر من النفاق السياسي الفج الذي لا حظ له من الطرافة أو الظرافة وهو ادعاء بعض السياسيين الفرنسيين أن الدافع لحظر الحجاب هو حماية المرأة المسلمة من إجبارها على ارتدائه من قبل مَن له سلطة عليها!. ومثل هذا النوع من النفاق السياسي، ادعاء بعض السياسيين أن حجاب المرأة المسلمة يعوق اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي.
وفي خطاب المشاركين في اللقاء المشار إليه أعلاه إلى الرئيس الفرنسي، ردوا على مقولة إن (الحجاب) ينافي العلمانية بأن غير فرنسا من الدول الديمقراطية في العالم ليست اضعف من فرنسا إيماناً بالعلمانية، وربما لا يعتبر عدد منها أكثر التزاماً من فرنسا بحقوق الإنسان ومع ذلك لم تر أي من هذه الدول أن الحجاب ينافي العلمانية.
كما ردوا على تبرير منع الحجاب أنه ييسر اندماج المسلمين في المجتمع الذي يعايشونه أو انسجامهم معه بأن التاريخ يثبت أن هذه الدعوى غير صحيحة، فقبل خمسة قرون جرت محاولة لدمج المسلمين في المجتمع المسيحي الإسباني عن طريق انتهاك حريتهم الدينية ومنعهم من ممارسة فرائض دينهم، فلم تحقق هذه المحاولة هدفها إلا بعد قرون من المآسي الإنسانية، لكن بعد إلغاء محاكم التفتيش في عام 1835 لم يخطر في بال أحد أن اضطهاد الإنسان ومصادرة حريته الدينية يمكن أن تسهل انسجامه مع المجتمع الذي يضطهده وتعبأ مشاعره ضده.
وأشار خطاب المشاركين إلى التجربة الناجحة التي جرت قبل أربعة عشر قرناً عندما حكم المسلمون أجزاء من أوروبا، فأمكن في وقت قصير وجود مجتمع متناغم ومنسجم بالرغم من التنوع الثقافي والديني فيه، وتم ذلك بسبب أن الحكم الإسلامي ضمن الحرية الدينية الكاملة لغير المسلمين فسمحوا باستقلالهم القانوني، واستقلالهم القضائي، واستثنائهم من القانون الجنائي العام، وكان معيار الاستثناء عدم تجريم أي فعل يعتقد غير المسلمين أنه مباح في شرعهم وإن كان مجرماً في القانون الجنائي العام.
طبعاً لا أحد يفكر الآن بأن من حق الجاليات المسلمة في دول الغرب أن تطالب باستقلالها القضائي أو القانوني أو استثنائها من القانون العام للدولة، لكن من حق هذه الجاليات أن تحمى في ظل الدول العلمانية الغربية من انتهاك حريتها في الاعتقاد، وفي ممارسة فرائض الدين.
ومع ذلك فمن المفيد إيراد بعض الشهادات على ما ورد في خطاب المشاركين في اللقاء الى الرئيس الفرنسي، وهذه الشهادات تحفل بها كتب التاريخ الأوروبي، ومنها ما كتبه المؤرخون الفرنسيون، فعلى سبيل المثال ورد في كتاب «حضارة العرب» للمؤرخ والفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون (ترجمة عادل زعيتر) ص 605، ما نصه: «أدرك الخلفاء السابقون الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسراً، فعاملوا أهل سورية ومصر واسبانيا بلطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ومعتقداتهم غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة.. في مقابل حفظ الأمن بينهم فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا ديناً مثل دينهم، وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الاسباب في سهولة اعتناق كثير من الامم لدينهم ونظمهم ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات وبقيت قائمة حتى بعد ان توارى سلطان العرب عن مسرح العالم».
ويقول في (ص 212): «وقد ذكرنا ما كان عليه عمرو بن العاص من الحذق والمهارة نحو سكان مصر فهو لم يتعرض الى ديانتهم ولا الى نظمهم ولا الى عاداتهم»، وفي (ص 215): «وعامل عمرو بن العاص الفلاحين بما لم يعرفوا من العدل والانصاف منذ زمن طويل وانشأ للمسلمين محاكم منظمة دائما ومحاكم استئناف، فاذا كان احد الخصوم مصريا (غير مسلم) حق للسلطات القبطية ان تتدخل واحترم عمرو بن العاص نظم المصريين وعاداتهم ومعتقداتهم ولم يمنع عمرو بن العاص من عادات المصريين سوى عادة اختطاف احدى العذارى الحسان من ابويها في كل سنة وقذفها في النيل لكي يمن إله النيل على مصر بما تحتاج اليه من ارتفاع وقت الفيضان» وفي (ص 430) «وكانت اخلاق العرب في ادوار الاسلام الاولى ارقى كثيرا من اخلاق امم الارض قاطبة ولا سيما الامم النصرانية وكان عدلهم واعتدالهم ورأفتهم وتسامحهم نحو الامم المغلوبة ووفاؤهم بعهودهم ونبل طبائعهم مما يستوقف النظر وناقض سلوك الامم الاخرى ولا سيما الامم الاوروبية ايام الحروب الصليبية». وفي (ص 309 310): «وترك لنصارى صقلية كل ما لا يمس النظام العام فكان للنصارى كما في زمن الروم قوانينهم الدينية والمدنية وحريتهم الدينية وحكام منهم للفصل في خصوماتهم.. وجعل العرب كل ما له علاقة بالقوانين المدنية كالتملك والارث وما اليهما ملائما لعادات صقلية، ولم يرغب النورمان عنه حين استولوا عليها، وسمح العرب في ايام سلطانهم للنصارى بالمحافظة على قوانينهم وعاداتهم وحريتهم الدينية.. وقد روى الاب موروكولي انه كان ينصب في الحفلات العامة بمسينة رابتان احداهما اسلامية وعليها صورة برج اسود في حقل اخضر، والاخرى نصرانية وعليها صليب مذهب في حقل احمر، ولم يمس العرب الكنائس القائمة في صقلية حين فتحهم لها». وفي (ص 570) «ويمكن القول ان التسامح الديني كان مطلقا في دور ازدهار حضارة العرب وقد اوردنا على هذا غير دليل».
ولا تختلف شهادات المؤلفين المحدثين عن الاقدمين فبعد كتاب غوستاف لوبون بحوالي قرن كتب Blyden في كتابه Christianity Islam and the Negro Race ص 254 1969 «تحت الحكومات الموريسكية في اسبانيا حينما كان للاسلام السلطة السياسية كانت الجماهير من المسيحيين الاسبان يتمتعون بحماية التسامح الاسلامي المطلق طبقا للقوانين التي يفرضها الاسلام، فكان مسموحا لهم بأن يحكموا وفقا لقوانينهم ومحاكمهم كلما كانت الخصومة متعلقة بهم وحدهم».
اما فيما يتعلق بحاجة الحضارة الغربية الحديثة للتعلم من الاسلام فيما يتعلق بالتسامح تجاه الآخر وقبول التعددية فيمكن على سبيل المثال الرجوع الى الكاتب الشهير Gibb في كتابه Whither Islam صفحات 227 و228 و379 والى المؤرخ الكبير A.J. Toynbee في كتابه Civilizations on Trial ص 205 206 كما ينصح القارئ بالرجوع الى كتابات المستشرقة الالمانية ماري شميل، والمستشرقة الالمانية زيجريد هونكة وبخاصة كتابها الاخير «الله ليس كما يصفون».
لقد اشرت فيما سبق الى ان التوجه السياسي الفرنسي ليس غلوا حقيقيا في الآيديولوجية العلمانية، وان حاول الظهور بهذا المظهر، وانما يخفي غلوا من نوع آخر يتصل بالاتجاه السلبي الغربي ضد الاسلام، وهذا الاتجاه تغذيه احيانا دوافع سياسية لا نريد ان نتعرض لها الآن، لكثرة ما كتب حول هذا الموضوع لكن الامر اكثر اهمية في نظرنا ان هذا الاتجاه السلبي تغذيه مشاعر تراكمت من الموروث الثقافي.
ويشرح هذا غوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب» (ص 577)، حيث يقول: «وقد يسأل القارئ بعدما تقدم لم ينكر تأثير العرب علماء الوقت الحاضر الذين يضعون مبدأ حرية الفكر فوق كل اعتبار ديني كما يلوح؟ لا ارى غير جواب واحد عن هذا السؤال الذي أسأل نفسي به ايضا وهو ان استقلالنا الفكري لم يكن في غير الظواهر في الحقيقة، واننا لسنا من احرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد، فالمرء عندنا ذو شخصيتين، الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة والبيئة الخلقية والثقافية. والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الاجداد وكانت خلاصة لماض طويل، والشخصية غير الشاعرة وحدها ووحدها فقط هي التي تتكلم عند اكثر الناس، وتمسك فيهم المعتقدات نفسها مسماة بأسماء مختلفة وتملي عليهم آراءهم فيبدو ما تمليه عليهم من الآراء حرا في الظاهر فيحترم. وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الاسلام والمسلمين في قرون كثيرة، وصارت جزءا من مزاجنا واضحت طبيعة متأصلة فينا تأصل حقد اليهود على النصارى الخفي احيانا والعميق دائما. ويتراءى لبعض الفضلاء ان من العار ان يرى ان اوروبا النصرانية مدينة لاولئك الكافرين في خروجها من دور التوحش فعار ظاهر كهذا لا يقبل إلا بصعوبة»، ويضرب غوستاف لوبون مثلا بالفيلسوف الفرنسي الشهير رينان، حيث يلاحظ تناقض كتاباته عن المسلمين فبينما تجبره معلوماته على الاعتراف بفضل الاسلام يعود تحت ضغط مشاعره الى انكار ذلك، وبينما يقذع في هجو الاسلام يقول كلمته المشهورة «انني لم ادخل مسجدا من غير ان اهتز خاشعا اي من غير ان اشعر بشيء من الحسرة على انني لست مسلما».
وبعد كتابة غوستاف لوبون التي اوردناها بأكثر من قرن يكتب دكتور مراد هوفمان في كتابه «الاسلام عام 2000» (ترجمة المعلم: ص 32 41) «لن يكون من العدل اتهام الثقافة الاورواميركية ذات المدخل الاستعماري الجديد بالعجز الكامل عن اي تسامح مع الاديان، بل بالعكس فقد يهتم اكثر الناس استنارة اهتماما اجتماعيا ببعض الاديان كالبوذية والثيوسوفية، وفي الواقع يستطيع المرء في اوروبا او الولايات المتحدة ان يتبع مرشده الروحي الهندي او يمارس سحر الهنود الحمر الشاماني دون خطر ان يفقد عمله او حياته، طالما ليس هناك ما يمس العمل او المؤسسة السياسية فلا ضير من اتباع ديانات غريبة، وأسوأ ما يقال في ذلك انه شيء غريب.. إلا اذا كان الدين المعني هو الاسلام، فالاسلام هو الدين الوحيد الذي لا يشمله التغاضي اللطيف او التسامح الجميل (ص 32). اصبحت ادانة الاسلام جزءاً لا يتجزأ من العقلية الاوروبية (ص 35). سيكون وهماً خطيراً ان نعتقد تلاشي الروح الصليبية.. في الحقيقة لم ينته عصر الحروب الصليبية في أي زمان، اليوم ليس البابا من يدعو للحملة ضد الإسلام، لكنه قد يكون مجلس الأمن بالأمم المتحدة يدعو للتدخل.. لفرض حظر سلاح على دولة مسلمة ضحية العدوان، نعم، اذا سبرت غور النفس الأوروبية ولو بخدش سطحي صغير لوجدت تحت الطبقة الرقيقة اللامعة عداء الإسلام، عقدة فينا التي يمكن استدعاؤها في أي وقت، وهذا ما حدث بالضبط في أوروبا في العشرين سنة الماضة (ص 37)، تظهر معاداة للإسلام حاليا في صور كثيرة: الإهمال، تطبيق معايير مزدوجة.. لنبدأ بالإهمال.. لأبسط الأمر جهل المرء بالإسلام وحضارته لا يعتبر في أميركا أو أوروبا نقصا في التعليم، يكيل الغرب بمكيالين، وهذا ظاهر للعيان، لنأخذ الإعلام الغربي كمثال. اذا هاجم إرهابي من خارج العالم الاسلامي هدفاً جاءت التقارير: «مقاتل أو محارب من ال I.R.A أو E.T.A أو غير ذلك قام ب …»، ولن نسمع مطلقاً: «متعصب كاثوليكي»، أو «متعصب اشتراكي»، حتى الهجوم بالغاز في مترو طوكيو عام 1995 نسب إلى راديكاليين. أما اذا القى شخص من الشرق الأوسط قنبلة غاز فينسب العمل لمسلم متعصب، حتى لو كان ذلك العربي مسيحياً أو بعثياً ملحداً… يبدو أن وسائل الإعلام (في الغرب) تشكو من قرون استشعار انتقائية خاصة عندما تلصق بالاسلام القسوة والفظاعة كما لو كانتا من مكوناته وكما لو كان للإسلام ارتباط بالعنف اكثر من أي دين أو مذهب.. يترك الإعلام الغربي شهادات التعميد خارج اللعبة إلا اذا خصت المسلمين. لا يحلل نشاطهم السياسي على أساس دوافعه السياسية، ولكن كنتيجة لديانة شريرة. هل يريد أحد استثارة مقارنة تحليلية بين المسيحية والإسلام ليرى أيهما أهدر دماء أكثر؟.. حتى في المجتمع العلمي هناك معيار مزدوج، فمن الواضح خصوصاً في الولايات المتحدة في العقود الاخيرة وجوب توافق الأبحاث العلمية مع ما يعتبر سليماً أو صحيحاً سياسياً.. يشعر المسلمون بالمرارة والسخرية عندما يجدون معياراً مزدوجاً في سياسة الغرب والأمم المتحدة، فيقولون باستهزاء عن القانون الدولي: إنه أشقر وعيونه زرقاء، لنأخذ مثلاً نظاماً عسكرياً أحبط وصول أصوليين مسيحيين الى السلطة بعد أن فازوا في الانتخابات، ليكن ذلك في هايتي مثلا: ستتحد الدول ضد الدكتاتور… لصالح الحكومة المنتخبة ديمقراطياً.. إلا.. إلا اذا كان الفائز بالانتخابات حزبا أصوليا في الجزائر مثلا سيكون.. (للدكتاتور).. في هذه الحالة فرصة ليحظى بالتسامح عما يفعله من شر صغير، فالشر الكبير هو الإسلام في أي صورة (ص 38 41)».
وكتب المفكر النمسوي ليوبولد فايس فيما بعد المسلم محمد أسد في كتابه «الاسلام على مفترق الطرق» ترجمة عمر فروخ ( 50 51) «فيما يتعلق بالإسلام لا نجد موقف الأوروبي موقف كره في غير مبالاة فحسب كما هو الحال في موقفه من سائر الأديان والثقافات بل هو كره عميق يقوم في الاكثر على صور من التعصب الشديد وهذا الكره ليس عقلياً فحسب ولكنه مصطبغ ايضاً بصبغة عاطفية قوية قد لا تتقبل أوروبا تعاليم الفلسفة البوذية أو الهندوكية، ولكنها تحتفظ دائماً فيما يتعلق بهذين المذهبين بموقف عقلي متزن مبني على التفكير، إلا انها حالما تتجه الى الاسلام يختل التوازن ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب حتى أن ابرز المستشرقين الاوروبيين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العلمي في كتاباتهم عن الاسلام.
ويظهر في بحوثهم على الأكثر كما لو أن الإسلام لا يمكن أن يعالج كما لو أنه موضوع بحث في البحث العلمي، بل على أنه متهم يقف أمام قضاته، إن بعض المستشرقين يمثلون دور المدعي الذي يحاول اثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام المحامي في الدفاع فهو مع اقتناعه شخصياً بإجرام موكله لا يستطيع اكثر من أن يطلب له مع شيء من الفتور اعتبار الأسباب المخففة».
وبعد فما هي احتمالات المستقبل؟ يحتمل أن ترفض الجمعية الوطنية الموافقة على مشروع قانون منع ارتداء المسلمة غطاء الرأس، وفي هذه الحالة سوف تسجل العلمانية الفرنسية انتصارها بعدم المساس بالمبادئ التي قامت عليها، وسوف تنتصر الجالية المسلمة البالغ مقدارها حسب خطاب الرئيس الفرنسي خمسة ملايين نسمة، باحتفاظها بحق الحرية في المعتقد وممارسة الفرائض الدينية، وسيساعد ذلك على الاندماج الايجابي في المجتمع.
ويحتمل أن توافق الجمعية الوطنية الفرنسية على مشروع القانون، وفي هذه الحالة سوف تكون موافقتها ضربة موجعة وفضيحة فكرية للعلمانية الفرنسية، والعلمانية في العالم الاسلامي، وسوف تعرى ثغراتها، شأن أي غلو آيديولوجي وسوف يوجد لدى الجالية الاسلامية الفرنسية عامل اضافي في ترسيخ هويتها ووقايتها من الذوبان في ثقافة غريبة، حقا سوف تعاني الجالية الاسلامية في فرنسا، وسوف يتجذر الشعور بالظلم والاضطهاد لديها. وسوف يوجد عامل اضافي لتنافر القلوب ولا احد اوتي شيء من الحكمة يرغب في ذلك، ولكن الاسلام لن يضار، لأن الظلم والاضطهاد اذا لم يصلا الى درجة الابادة والاستئصال يكونان عاملاً فاعلاً في التشبث بالعقيدة والثبات عليها، بل سوف ينتصر الاسلام بوجود علامة جديدة مضيئة تبصر المسلم بالفرق بين المبادئ الانسانية الصادقة، والمبادئ الادعائية الزائفة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
* الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي ورئيس اللقاء الوطني للحوار الفكري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق