| |||
15-09-2012 | جمال بن فضل الحوشبي | |||
ومع ازدياد وتيرة الدفع الجماهيري (للإسلاميين) صوب مراكز اتخاذ القرار، تزداد الحاجة في المقابل، للتسريع من عملية الأسلمة أو التأصيل للأفكار والمناهج، والقوانين والأنظمة التي سيتعاملون معها في مسيرة العمل القادم، وبخاصة السياسية منها. ومن هنا جاء حديثنا عن منهجية الرّشد السياسي التي تتناول جملة من الأصول الكبرى التي لا ينبغي تجاوزها في خضم المدافعة الجديدة التي يتطلبها فقه المرحلة.
أفرز ما يُعرف (بربيع الثورات العربي) حراكاً سياسياً غير مسبوق، سعى الأفراد من خلاله لمزيد من المعرفة بالديمقراطية، والمحافظون إلى مزيد من المصالحة معها، ودخلت معه (الأحزاب) القائمة سباقاً محموماً لملء الفراغ السياسي الحاصل في أعقاب إزاحة الأنظمة السابقة. ولأنّ الشعوب المستضعفة إذا ملكت إرادتها فقدت السيطرة على حركتها؛ فإن ثورتها في وجه من ظلمها، تبدأ، في غياب الموجّهين العقلاء، بموجة عاتية من الغضب وتؤول إلى طوفان عارم من الفوضى؛ وهو ما يدفع بالغيورين لاتخاذ قرارات جدية ومواقف طارئة ربما لم تكن مدرجة في الحسابات السابقة.
ومع ازدياد وتيرة الدفع الجماهيري (للإسلاميين) صوب مراكز اتخاذ القرار، تزداد الحاجة في المقابل، للتسريع من عملية الأسلمة أو التأصيل للأفكار والمناهج، والقوانين والأنظمة التي سيتعاملون معها في مسيرة العمل القادم، وبخاصة السياسية منها. ومن هنا جاء حديثنا عن منهجية الرّشد السياسي التي تتناول جملة من الأصول الكبرى التي لا ينبغي تجاوزها في خضم المدافعة الجديدة التي يتطلبها فقه المرحلة.
والحديث عن الشيء ونقيضه بات ينطبق تماماً عن المواقف السابقة واللاحقة من الديمقراطية، التي ظلّت عند البعض، طوال عقود، شرّاً محضاً، أَيْنَمَا توَجِّههّاُ لاَ تأْتِ بِخَيْر، ثم أصبحت بين عشيّة وضحاها.. العصى التي يتوكئون عليها أمام أنصارهم، ويهشون بها على خصومهم!! ويعلنون صراحة، في الميادين ووسائل الإعلام، بأنهم انتقلوا إلى السلم الديمقراطي كافّّة، ويؤكدون صدق نواياهم السياسية بإشهار (أجنداتهم).. التي تجاوزت مرحلة تشكيل قوى الضغط والسكر والكوليسترول السياسي، إلى تشكيل أحزاب ذات رؤية تنموية، قادرة على الوصول إلى مراكز صنع القرار!!
• أولاً: المصالحة مع السياسة!
لم تكن السياسة في يوم ما أقرب منها للعمل الإسلامي كحالها معه اليوم، وإن أقصتها عنه ودعت لفصلها منه شعارات التغييب التي مارستها الأكثرية الحاقدة، أو الأقلّية المستغفلة. ونظراً لأنّ الممارسات السياسية المعاصرة لم تزل مبنية على الكذب، والمخادعة والمكر.. فقد ظلّت قاعدة (فرّ من السياسة) (وليس من السياسة الدخول في السياسة) هي الشعار الذي يؤمن به البعض إلى عهد قريب، حتى بدت معالم المصالحة الكبرى، التي حدت بالبعض لإدراج (التربية السياسية) ضمن منهجية البناء للأجيال القادمة، في حين كان ذلك ضرباً من الخيال قبل بضع سنين من الآن!! والحقّ أنّ المصالحة مع السياسة ليست وليدة الساعة، بل هي ضاربة في القدم؛ ومن دلائل ذلك ما يلي:
1. أن عقلاء البشر، منذ القِدم، اتفقوا على تنصيب من يقوم بتعاهد مصالحهم، وتنظيم شؤونهم، والقضاء على مظاهر الفوضى في حياتهم. قال الماوردي رحمه الله في كتابه (الأحكام السلطانية): من طباع العقلاء التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم. ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين، وهمجاً مضاعين. وقد قال الأفوه الأوردي، وهو شاعر جاهلي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا .
2. أن الغاية من السياسة إنما يُمدح إذا أفضى إلى رعاية مصالح النّاس، وإقامة الدِّين في الأمّة، وسياسة الدّنيا به. قال الماوردي
رحمه الله تعالى: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في: حراسة الدِّين، وسياسة الدّنيا به، وعقدها لمن يقوم بها في الأمّة واجب بالإجماع .
3. أنّ السياسة الشرعية بهذا المقصد مطلب شرعي، وفرض كفائي تأثم الأمّة بمجموعها إذا لم تحقق الكفاية فيه. قال بن الأزرق: حقيقة هذا الوجوب الشرعي راجعة إلى النيابة عن الشارع في: حفظ الدِّين، وسياسة الدّنيا به، ويُسمى باعتبار هذه: خلافة وإمامة؛ وذلك لأنّ الدِّين هو المقصودُ في إيجاد الخلق، لا الدنيا فقط؛ فحمل النّاس على حُكمه دنيا وأخرى، ونُصب لذلك الخليفةُ نائباً عن صاحب الشرع .
4. أنّ الفارق كبير بين سياسة النّاس بالدين، وسياستهم بالملك أو الحكم الدنيوي الخامل، ولعلّ أظهر وجوه الفرق ما يلي:
• الأول: مقتضى الحكم وبواعثه بين السياستين؛ فالملك الطبيعي في ذاته حملُ للناس على الطاعة بمقتضى الأغراض الذاتية، والشهوات الدنيوية، وهو ما يفضي إلى الجور والعدوان، فالهلاك العاجل، وسياسة النّاس بالدِّين نقيض ذلك تماماً.
• عواقب الحكم وآثاره بين السياستين؛ فسياسة النّاس بالدِّين تُرضي الخلق، وتجمع أمرهم، وتقضي على أسباب الفرقة والشتات الكامنة فيهم، وتنزل الساخط منهم منزلة الراضي؛ ما دام يُقضى فيه بأمر الله تعالى ورسوله، بخلاف من قُضي على ماله أو بدنه أو بأهواء السّاسة الذين لا يسعون إلا لتحقيق مصالحهم. قال ابن المقفع: الملوك ثلاثة: ملكُ دينٍ، وملكُ حزمٍ، وملكُ هوى؛ فأمّا ملكُ الدِّين فإنّه إذا أقام للرعية دينهم، فكان دينُهم هو الذي يُعطيهم الذي لهم، ويلحق بهم الذي عليهم.. أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الرّاضي، في الإقرار والتسليم. وأمّا ملكُ الحزمِ فإنّه تقومُ به الأمور، ولا يسلمُ من الطَّعنِ والسَّخط، ولن يضر طعنُ الذيلِ مع حزمِ القوي. وأمّا ملكُ الهوى فلعِبُ ساعةٍ ودمارُ دهر .
5. أنّ الدّين الذي لا يتوافق مع السياسة، والسياسة التي تخرج عن الدِّين هي تلك التي اقتبسها الحكام في هذه الأعصر من الغرب أو الشرق مجرّدة عن الدّين، وتغلب على ممارستها: الغش والمكر، والخديعة والظلم، واتباع الأهواء؛ وإلا فإنّ السياسة التي تقوم على رعاية شؤون العباد بما يصلحها جزء من الدِّين ، والانشغال بها من العبادات التي تقرّب إلى الله تعالى، بل هم في الحقيقة قائمون مقام الأنبياء في هذا الباب؛ فقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يسوسون أقوامهم، ويرعون مصالحهم في أمور معاشهم ومعادهم. عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كانت بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ. وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ). قالوا: فما تَأْمُرُنَا؟ قال: (فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ.. أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فإنّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ) .
• ثانياً: إعادة الموازين!
لعل التحدي الأكبر الذي ينتظر موسم الحصاد السياسي من هذا الربيع العربي القائم إثبات فشل العقيدة العلمانية.. الضاربة على وتر الفصل بين: الدين والدولة، والمسجد والسوق، والمصحف والدستور. وبدون تكريس هذا الفشل في عقول الجماهير المسلمة وقلوبها يبقى فتيل الثورة على أيّ شيء، ضدّ كلّ حكومة، قائماً، ونتائجها الكارثية قد تكون قابلة للتوجيه صوب إعادة (الدين) إلى محرابه الضيق، والسماح للعلمانية بإدارة دفّة الحياة من جديد، وبصورة أكثر هيمنة من ذي قبل!
ولعل من الوسائل المساعدة في توعية الجماهير بحقيقتها ومساحة تحركها المشروع.. غرس معاني العبودية الحقة لله تعالى، وإعادة التوازن للتصور المغيّب طوال العقود الماضية عن حقيقة الإسلام، والتوعية بدروس السيرة النبوية عبر قراءة جديدة تطبيقية تتلمّس الأساليب النبوية العملية في منهجية البناء الاجتماعي.
وبالتأمّل في سيرة (الأنبياء الملوك) خاصّة نجد الشمولية والتكامل المفقود بين العمل للدنيا والعمل للآخرة. قال الكتاني رحمه الله: ولا شك أن المسلم إذا تتبع السيرة النبوية.. لم يبق له شك في أن نبيه جاء بعمارة الدنيا والعمل للآخرة، لا بخراب العالم والانقطاع عن العمل، حاشا وكلا. نعم جاء عليه السلام بعدم تعمير القلب بالدنيا، تعميرا يغفل به المسلم عن ربه وتوحيده، ولكن أمرك أن تجدّ وتجتهد، حتى تملأ منها يدك، وتترك قلبك لله، وما يرضيه منك من وجوه مبرّات وحسنات لبني جلدتك خالدات. بهذا جاء الدين لا بعكسه، ويدلك لذلك أنّ ثلث الشريعة الإسلامية عبادات. وأسرار تلك العبادات تتضمن سعادة بدنك وحياة روحك، زيادة على إخلاص العمل لوجه الله. وبقية الثلثين معاملاتٌ دنيوية، وكيفية الأخذ منها والرّد بالقسط .
وجاء في الروض الأنف أنّ العلاء بن الحضرمي لما قدم على المنذر بن ساوى وخاطبه في الإسلام وشرائعه، أجابه المنذر بقوله: قد نظرتُ في هذا الأمر الذي في يدي، فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرتُ في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت؟! ولقد عجبتُ أمسِ ممن يقبلُه وعجبت اليوم ممن يردّه!! وإن من إعظام من جاء به أن يُعظَّم رسوله . وفيه أن الجلندي صاحب عمان لما قدم عليه عمرو بن العاص قال له: انظر في هذا النبي الأمي الذي جاء بالدنيا والآخرة .
• ثالثاً: تظافر الجهود!
سياسة الرشد المنهجي تقود، ولا شك، إلى منهجية الرشد السياسي، إضافة للرّشد في كافّة المجالات الأخرى. وهذا ما كان مفقوداً قبل أحداث ما يسمّى بالربيع العربي، حيث كانت التربية السياسية تطير بجناح واحد؛ تارة بتأكيد هؤلاء على أن فقه المرحلة يتطلب التريّث فحسب؛ تجنباً للمفاسد الناجمة عن الدخول في السياسة وما يتطلبه ذلك من تشكيل الأحزاب والقبول بنتائج أصوات الجماهير فيما لا حكم فيه إلا لله وحده. وتارة بتأكيد أولئك على أن فقه المرحلة الحقيقي لا يتحقق بدون مصاولة الأعداء والخصوم في ميادين الانتخابات، وحفظ مقدّرات الأمة في ثغور البرلمانات. والكلّ مصيب فيما ذهب إليه بمقدار: الصدق، والوعي، وهو أحق بالمعونة بحسب تفعيل الإرادة الكامنة، وفق القدرات والإمكانات المتاحة.
وإذا جاز لنا أن نؤرخ لمسيرة التقارب بين المدارس والجماعات الدعوية العاملة في أعقاب هذا الربيع الثوري، كما يطلق عليه، مع كلّ موقف سياسي تتجلّي فيه بوادر التقارب بل والاندماج بين التيارات والأحزاب الإسلامية، وبخاصة عند تقرير المصير، والتنازع مع الخصوم حول ترشيح فارس الأمل القادم، فلا أقلّ من ترشيد هذه المسيرة بالابتعاد أولاً عن المثاليات الحالمة الراغبة في الاندماج الكليّ، على كلّ وجه، بين عشية وضحاها، والعمل بدلاً من ذلك على إيجاد القاعدة المشتركة التي يتم فيها الاتفاق وتظافر الجهود حول جملة من الغايات الكبرى أكثر من أي شيء آخر.
إنّ الصادقين في النقد، صادقين في النصح كذلك. وإنّ الاختلاف الحقيقي في وجهات النظر إنّما يكون في محيط المساحة الأرحب من التآلف والتناصح والتعاون. وإنّ التجارب الإسلامية التي ظلّت تبدأ بخيارات (حزبية)، ثم لم تزل تجارب المدافعة مع الباطل تفتنها، وتزكّيها النصائح والمراجعات، وتحوطها الرعاية والمشورة.. تنتهي غالباً إلى خيارات (إسلامية)، لا يسع أحداً من أرباب العمل الإسلامي أن يتجاوزها أو يتجاهلها. وإذا كان النقد والتوجيه سمة التعامل مع الهوية الأولى لتلك الخيارات، فإنّه لا خيار مع الهوية الأخرى إلا المحبة والولاية والنصرة.
ومن تأمّل مآلات المدارس والجماعات التي تشّكلت تحت عباءة أهل السنة والجماعة وجد هذه الحقيقة ماثلة للعيان؛ إذ لم تعد التجارب السياسية لجماعة ما، بعد طول المراجعة، وشراسة المواجهة، تجربة حزبية محضة، بل تحوّلت إلى خيار (إسلامي) يتطلّب المزيد من الدعم، والمزيد من التكامل، والمزيد من النصرة، وبخاصة في ظلّ شراسة المواجهة القادمة للعلمانية التي لن تتنازل بسهولة عن تسليم مكتسباتها طوال العقود الماضية بهذه السهولة، فكيف إذا تحوّل المشهد برمّته إلى واجب شرعي متمثل في السمع والطاعة للحاكم، والدعاء له، وتحريم الخروج عنه، وبخاصّة إذا جاء من معين التجربة السياسية الإسلامية المعاصرة، وكان الأقرب لروح السياسة الشرعية التي ظللنا نسمع عنها في كلام أهل العلم من سلف هذه الأمّة!
إن فقه المرحلة يتطلب الوعي المشترك بواجبات مهمّة، لعلّ أهمها: الاتفاق على أدبيات تربية الجيل القادم، باستحضار مكاسب (وليتطلف) عند هؤلاء، ومكاسب (اجعلني على خزائن الأرض) عند أولئك، مع التأكيد على ضرورات النجاح الخمس، التي يتطلبها التعاون المشترك لصناعة سياسة الرشد القادمة:
1. ضرورة الاتفاق على تحديد الهدفين معاً: هدف البدء بالمقدمات التي تتمثل في تفعيل التنمية البشرية التي تتشكّل على إثرها شخصية الأفراد وإراداتهم وقناعاتهم، وهدف التنمية المتكاملة في المجتمع، بمجالاتها الصناعية والاجتماعية والاقتصادية.
2. ضرورة الوعي بثنائية الاتجاه لتربية الرشد السياسية، وأنها لا تقتصر على إعداد القادة وتنظيم الأحزاب فحسب، وإنّما تتوجه إلى الجماهير نفسها، لتزكيها وتغرس فيها قيم: العدل، والصدق، وحبّ الحق وإيثاره، والرحمة، والاجتماع، والتحمل، والإيثار، وترك العجز والكسل، وعلوّ الهمة، وقوة الإرادة.
3. ضرورة الوعي بأثر الإيمان على جميع شؤون العمل السياسي، بكونه الضابط لتحركات الجماهير وقرارات الساسة والوزراء، والموجه الفاعل لفلسفة السياسة في الإسلام ومناهجها وغاياتها، وإجراءاتها الرامية لتوجيه السلوك الجماهيري العام وفق متطلبات القيم الإيمانية الكبرى والقيم التنموية الأخرى.
4. ضرورة العمل من أجل الاجتماع وعدم التفرّق؛ وذلك بترسيخ ضمانات النجاح في تربية الأفراد من هنا وهناك على لوازم هذا الاجتماع ومقتضياته، وأهمّها استحضار رباط الأخوّة في الله تعالى، وحقوقها، وأهمها: صدق المحبة، وإحسان الظنّ، وصدق الحديث، وموالاة المؤمنين، وسلامة الصدر للمؤمنين، والإيثار، والتدرّب على أدب تقديم النصيحة، والتضييق على منافذ الشدّة في إنكار المسائل الخلافية السائغة، وسماحة النفس، وسعة الصدر.
5. استصحاب التقوى مع التواصي بالصبر على متطلبات المرحلة الطويلة القادمة، والتريّث في طلب النتائج، بإدراك أن المآلات التنموية الحميدة لا تظهر فجأة، وأنها بحاجة للكثير من المقدمات الإيمانية التربوية، وأنها حصيلة مجاهدة صادقة على التظافر والتناصح والتشاور.
ولأن مستقبل العمل السياسي أصبح أكثر حضوراً وتأثيراً في أولويات الدعوات القائمة والقادمة، فلا أقلّ، حال البحث عن قواعد (اللعبة) من استلهام التجارب السياسية التي رفعت شعار الإسلام قبل عقود من الآن، فهي أولى بالنظر من سواها، كما يجب الوعي بمكامن الخلل الذي وقعت فيه، ونقاط القوّة والتميّز التي حققتها. والحكمة السياسية، وإن كانت ضالّة المؤمن، إلا أنّ طلبها لا يستلزم الأمّعية أو التقليد من كلّ وجه، وهو ما يدعونا للحديث عن (الفطنة).. العاصمة بإذن الله تعالى من الذوبان، أو التنازل غير المدروس، أو التأثّر بمحاولات الاحتواء، والاختراق، والتوجيه المضاد، وهي الآفات السياسية الخمس التي يجب الحذر منها.
6. رابعاً: الفطنة السياسية!
إذا كان فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا،كما قال الأصوليين، مستدلّين بقوله تعالى: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) الذي أفاد اشتراكهم في الفعل ثمّ ذمهم على ترك التناهي عنه، فإنّ أولى الناس بذلك الراغبون في الاستمتاع بالسياسة المعاصرة مستصحبين حقيقة العِوج والانحراف فيها. وهم، مع هذا التناهي عن مسارات الزلل السياسي، مطالبون بالعمل على تزكيتها بإحلال ما يمكن إحلاله فيها من قيم السياسة الشرعية وأنظمتها وإجراءاتها.
وإذا جاز في السياسة، بمفهومها الغربي، أن يستغل السياسي حال الجماهير وحاجتهم ليكسب المزيد من أرصدته الانتخابية، ويستغلّ المواقف الإنسانية لإخفاء حقائقه السياسية، فإنّ السياسة في الإسلام لا تخرج عن قيم: العدل والرحمة، والصدق والنصيحة، وأربابها، من أهل العلم والحُكم (.. يعرفون الحقّ، ويتبعون سنة الرسول صلى الله عليه وسلّم، ويرحمون الخلق ويعدلون فيهم) .
ولأنّ العملية السياسية في مشرقنا الإسلامي لم تخرج، حتى الآن، عن هويتها المستوردة من الغرب العلماني، فإنّها سريعاً ما تتحوّل، قبيل الانتخابات خاصة، إلى (لعبة).. تتطلب المزيد من المراوغة والكذب، والمزيد من الخصومة والنفاق؛ لأجل الوصول إلى قلوب الناخبين وعقولهم!؟ والأعجب في هذه (اللعبة) أنها بدت أكثر هزليّة هذه المرّة؛ ففي حين يصرّ المرّشحون (الإسلاميون) الفائزون بأصوات الجماهير الغاضبة بأن ذلك نتيجة تكامل رؤيتهم السياسية، يؤكد (العلمانيون)، نتيجة استطلاعات الرأي، بأنّ الشعوب إنما اختارتهم ؛لأنهم يخافون الله ؟؟!
وكما لا تتنازل الدعوة الراشدة عن التسليم السياسي لخصومها من العلمانيين المستغربين، فإنها كذلك لا تقبل الفراغ الاجتماعي في فكرها وحركتها، ولذا لا تدع مسرحاً من مسارح الحياة الأخرى، ولا منبراً من منابرها إلى شغلته وزكّّته ووجّهته، سواء أكان تعليمياً أم تربوياً أم اقتصادياً أم إعلامياً.
ولم يظهر الضيق والضعف في مناهج المدارس الدعوية القائمة إلا بسبب خفوت تأثيرها الاجتماعي، وغياب شهادتها على الناس أجمعين، نتيجة انزوائها في مساحة ضيقة من التفكير، أورثها مساحة ضيقة مماثلة من الحركة. وعلى الرغم من الإمكانات المادية المتاحة والعقول الفذّة إلا أنّ الأحداث المتعاقبة ظلّت تؤكد حجم التغييب الذي فرضته تلك المدارس على نفسها، والذي حجبها عن رؤية الاحتياجات الحقيقية للأمّة، وتقديرها، وأظهر عجزها فيما بعد عن إيجاد الحلول الصحيحة لها، ومن بين ذلك تقدير مساحة الفرض الكفائي للعمل السياسي. والوعي بفقه المرحلة القادمة في هذا المجال يتطلّب فطنة سياسية تستجمع ثلاثة أمور:
1. التفريق بين عقيدة الديمقراطية وإجراءاتها، للخروج بحل وسط للخلاف المستطير حولها.
2. الانتقال إلى (فقه الاجتماع السياسي)، الذي يقلل منافذ الخلاف بين مؤسسات العمل الإسلامي، ويحدّد الضمانات العاصمة لها من الذوبان، ويصوغ الضوابط المتّبعة لدى الجميع في الخطاب الداخلي والعالمي، ويحكم نظامها من التوجيه المضاد، أو الاختراق القادم.
3. شمولية الإعداد للأجيال القادمة بما تقتضيه متطلبات استشراف المستقبل بإمكانات الظروف الحالية، بعيداً عن عقلية التعامل مع الأحداث كردود أفعال متأثرة بمساحة الفكر الضيق، والحركة المتواضعة المحدودة، المبنية على التردد وتضييع الفرص. مع التأكيد بأن احتياجات الأمّة أكبر من أن نحصرها في المسار السياسي أو الإعلامي أو الاقتصادي فحسب، مهما بدا ذلك ملحاً في فترة ما.
4. خامساً: توليد الأمواج الصاعدة !
على الرّغم من أنّ الثورات ليست داخلة في منهجية التغيير الذي نطمح إليه، إلا أن ذلك لا يدعونا بحال إلى سرعة إصدار الأحكام أو الوقوف في وجه الطوفان، أو حتى اتباع سياسة التفرّج من بُعد انتظاراً لما تؤول إليه الأمور، وبخاصّة إذا كانت ثورات تنادى بالحرّية والحياة الكريمة نتيجة سنوات الظلم العجاف، وتراكم القهر والإذلال والتغييب عن الهوية.
وأمواج الثوارت السطحية التي تحرّكها العواصف القادمة من جهة الشرق أو الغرب بحاجة إلى قدر كبير من المرونة الفاعلة، التي تجمع بين رجاحة الوعي، وسرعة الحركة؛ لاستباق الخيرات، وتوظيف الفرص المتاحة للاستصلاح السياسي المتاح، مع اليقين بأنّ الأمواج الصاعدة هي التي تحدث التغيير الحقيقي المنشود؛ لأنها تتحرك بفاعلية الدفق الذاتي، نتيجة تراكمات التربية الإيمانية الطويلة. وحركتها الواعية، في مجالات الشراكة الاجتماعية، مفعمة بالوعي بمفاتيح التغيير، والتخصص في كافة مجالات الحياة، مع استصحاب قيمها العليا، وهويتها الإيمانية الأصيلة.
ولأنّ السياسة حرفة، وهي لا تقبل في سوقها العالمي القائم أنصاف المتعلمين، ولا الأدعياء، ولا الهواة من باب أولى؛ فإن إعداد القوّة في المجال السياسي تمتزج فيه الصنعة الحرفية، بالهوية القيمية، وبدونهما لا يثمر العمل السياسي إلا الوبال على أصحابه، والفوضى والاضطراب في واقع المؤسسات التي تتعامل معه.
واستلهام (تربية الرشد السياسية) يتطلب الوعي بحجم المكاسب والتحديات، وتحديد نسبة الاعتماد على الأصيل والدخيل، وتعبيد الطرق السياسية للوصول إلى الغاية الكبرى التي خلق الله تعالى الجنّ والإنس لأجلها. ورؤيتها تسعى لتحقيق هدفين مهمين:
1. توظيف التنمية البشرية لتحقيق الغاية من الوجود، عبر الأخذ بيد الجماهير لتقوم بالتزاماتها تجاه خالقها، وأداء أمانة التوحيد والتكاليف الشرعية.
2. توظيف التنمية الاجتماعية والصناعية لتحقيق واجبات الاستخلاف في الأرض، والوفاء بالتزامات الإنسان تجاه كوكبه، عبر الاستثمار النافع للموارد والطاقات المتاحة الخاضعة لسنن التسخير الكونية.
وضمانات النجاح السياسي بحاجة إلى رسوخ قناعات إيجابية مشتركة لدى الجماهير. ولأنّ الجماهير، خلال المرحلة القادمة، ستظلّ متوثّبة للحفاظ على نتائج ثورتها على الطغيان والفساد؛ فإنها لن تقبل بالنوايا الطيّبة وحدها، كما لن تغفل عن مراقبة أداء الحكومات والوزارات المتعاقبة. ولذا فلا سبيل للوصول إلى غرس تلك القناعات الإيجابية فيها إلا بالعمل الجاد وفق مسارين متوازيين كذلك:
مسار الترويض للشخصيات المقهورة، ورعايتها، وتنشئتها تنشئة متكاملة، وفق منهج ربّاني يضبط حياتها ويوجه سلوكها نحو غاية الوجود الكبرى، ومسار العمل الجاد لاستصلاح الأنظمة والوزارات والإجراءات التي تقوم على خدمة تلك الجماهير، على تنوّع تلك الأنظمة واختصاصاتها ومجالات عملها؛ وإلا فإنّ الجماهير الجائعة التي ثارت في السابق لن تتردد عن فعل الشيء ذاته ما دامت قد استعادت إرادتها الجازمة، وقدرتها الكاملة من خلال الثورات.. فقط هو الإيمان الذي يروّضها، لتصبر على مضض العيش، وتواصل الصبر في السنوات الشداد قبل أن يحلّ الفرج. ولا سبيل لترويض إرادات الشعوب المسلمة الجامحة إلا بتعريفها بمرادات خالقها سبحانه لتمتثلها، ومرادات أعدائها لتحذر منها .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
|
الاثنين، 17 مارس 2014
حول منهجية الرشد السياسي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق