كان بشرٌ من العابثين اللاَّهين غير الآبهين لشيءٍ، وفي ليلةٍ كان يلهو مع رِفاقه يَشْرَبون ويَمْرَحون، فمرَّ بهم رجل صالح، فدقَّ الباب، فخرجَت إليهِ جارية، فقال لها صاحبُ الدار: حرٌّ أم عبد؟ قالت: بل حُرٌّ، قال: صدَقْتِ، لو كان عبدًا لاستعمل أدبَ العبودية ورعى حق مولاه عليه، فَسَمِعَ بِشرٌ مُحاورَتُهما، فسارع إلى الباب حافيًا حاسرًا، قد ولَّى الرَّجُل، فقال للجارية: ويحَك! من كلَّمكِ؟ وماذا قال لكِ؟ فأخبَرَتْه بما جرَى، فقال: أي ناحية أخَذَ هذا الرَّجُل؟ قالت: كذا، فَتَبِعَه بِشرٌ حتَّى لَحِقهُ، فقال له: يا سيِّدي، أنت الذي دققتَ الباب وخاطبت الجارية؟ قال: نعم، قال: أعِد علَيَّ الكلام، فأعادَه عليه فَمَرَّغَ بِشر خدَّيهِ على الأرْض، وأخَذ يرفس بقدميه التراب، يقول: لا بل عبْدٌ، لا بل عبْد.
الحرية، ما أجملَها من كلمة! وما أعذبَها من لفظة! تسرق القلوب، وتذهل العقول.
الحرية، هي تحرُّرُ الإنسان من طاعة الشيطان، الحرية هي التحرُّر من النفْس الأمَّارة بالسوء.
الحريَّة هي التحرُّرُ من الأخلاق الرذيلة.
الحريَّة هي التحرُّر مِن الأنانية.
الحريَّة هي التحرُّر من الجشَع والطمع.
الحريَّة هي التحرُّر من الحِقد والحسد.
الحريَّة هي التحرُّر من المادية، هي التحرُّر من الشُّحِّ والبخل، هي التحرُّر من الضغينة والكُره وسوء الظن، هي التحكُّم في النفس وقيادتها إلى الخير.
الحرية أن يتحرَّر اللسان من الكذب والنميمة والغِيبة، والسخرية والهمز واللمز.
الحرية أن يتحرَّر القلْب واللسان والجوارح مِن كلِّ ما يغضب الله.
الحرية هي كمالُ العبودية لله، وأنت مختار راضٍ، محب راجٍ، أن يسجُد قلبك لمولاك وخالقك ذلاًّ وخوفًا، وحبًّا ورجاءً.
الحرية أن تستغني عن الدنيا والناس برُوحك لا بجسمك، لا يستعبدك منهم أحدٌ، لا يستعبدك مالٌ ورغيف عيش، لا يستعبدك هوى نفْس، لا تستعبدك شهوةُ فَرْج.
فمَن تعلَّق قلبُه بالمخلوق كان أسيرًا له، طوعَ أمره ولو كان أميرًا، ومن تعلَّق قلبُه بالله استغنَى عن الخلق ولو كان عبدًا.
الحريَّة هي حريَّة الرُّوح، وليستْ حرية الجسد.
الحرية أن تملِك المال لا أن يملكَك، كلَّما استغنى الإنسانُ عن الشيء مَلَكَه، أما إذا احتاج للشيء فقد ملَكه الشيء.
الحرية أن أتحكَّم في أخلاقي وسلوكي، وأن أتحكَّم في تصرُّفاتي وردود أفعالي.
فشتَّان بين العُبُودية للنفْس والشيطان، وبيْن العبودية لربِّ الأنام، إنَّ عبودية الإنسان لإنسانٍ هي عينُ المهانة والهوان، والذل والاحتقار، ولكن عبودية المخلوق لخالقِه هي الشرفُ كلُّه، وهي العِز بعينه، فشتَّان شتَّان بيْن عبودية وعبودية، عبودية الله هي قوتُ القلوب وغذاء الأرْواح وقرَّة العيون وسرور النفوس، الغِنى الحقيقي هو الاستغناءُ عمَّا سوى الله، والحريَّة الحقيقيَّة هي كمال العبودية لله، إنَّ الله لم يخلق العباد سدًى وهملاً، وعبثًا ولعبًا، وإنما خلَقهم ليوحِّدوه وبالعبودية يفردوه؛ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾ [الذاريات: 56 - 57].
تدبَّروا - يا عباد الله - قولَ ربِّكم بقلوبكم لا بعيونكم: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ [القيامة: 36 - 40]، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تَعِسَ عبْدُ الدِّينارِ وعَبْدُ الدِّرْهم وعَبْدُ الخَميصة، إنْ أُعْطي رَضِي، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِط، تَعِسَ وَانْتَكَس، وإذا شِيكَ فلا انْتَقَشَ))؛ رواه البخاري (2887).
أما إذا أطاع المرءُ نفْسَه وقال: أنا حر، ما النتيجة؟ إذا قلَّ دِينه وورعُه سيصبح حيوانًا لا يقود نفْسَه، بل هي التي تقوده، فالنَّفْس الأمَّارة بالسوء تحبُّ الزنا، وتحب المال ولو كان حرامًا، وتحبُّ المخدِّرات وسائِر المنكرات، لنفرض أنَّ امرأة زَنَتْ، كيف سيكون شعورُ زَوجِها؟! شعور أهلها؟! شعور أبنائها؟! كم سيترتَّب على ذلك مِن خراب للأسرة والمجتمع؟! بل أمراض وأوبئة؟! إذًا يجب ألا تُتركَ النفسُ حرَّةً بلا قيد، وإنما تكون حرةً بشرْط ألاَّ تخالف الدِّين والشرع.
احذروا - يا عباد الله - مِن عدوِّكم الذي يريد منكم أن تَعبدوا أنفسَكم وشهواتكم، إنَّه إبليس عدوكم اللدود، يريدكم أن تعبدوه، يريدكم أن تتمرَّدوا على أوامر ربِّكم كما تمرَّد على أمر ربِّه ورفَض السجود لأبيكم آدَم، فعاقَبه الله باللعنة والنار؛ ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 71 - 83].
احذروه، إنَّه مخادِع أفَّاك، يلبس الحق بالباطل، احذروه؛ فهو يتقوَّل على الله ويتجرأ، ألم يخدع أباكم آدم؟ ألم يقسم بالله له أنَّه الناصحُ الأمين؟ ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 21]، ألم يُزيِّن له الباطل ويضعْه في صورة غير صورته، وقالب غير قالبه حتى يخدعه؟ ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22]، غرَّهم فألبس الباطل ثوبَ الحق، والمضرَّة ثوب المنفعة، احذروا إبليسَ وأعوانه، الذي يُحرِّكهم دون أن يشعروا؛ لأنَّهم بعدوا عن ربِّ العالمين؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ﴾ [مريم: 83 - 86]؛ أي: تدفعهم دفعًا وتحرِّكهم وتستعملهم، فاحذرْ مِن كلِّ مَن يحارب الدِّين وأهله؛ لأن قائدهم إبليس فهو يمكر لهم.
ولقد تعجبتُ مِن المصطلح الذي أخذ يتردَّد كثيرًا في عالمنا، العالَم الذي أصبحتِ الثوابت فيه متغيِّرات، وأصبحتِ الألفاظ فيه جوفاءَ لا معنى لها، بل وسُمِّيت الأشياء بغير اسمها، وأصبح لها مدلولٌ غير مدلولها، مصطلح (الحرية) لماذا غير المفسِدون اسمَ الحرية؟ لماذا سلبوها جمالها، ويْحَهم! أي حرية يريدون؟! حرية الكفر والتمرُّد!
آه مِن عالم أصبح ربُّ العالمين فيه ديكتاتوريًّا، يريد أن يتحكَّم في البشر بديكتاتورية الدِّين! آه من عالم تغيَّرت فيه المفاهيم! آه يا شياطين، يا من زَورتم الحرية باسم الحريَّة، اقترفتم الآثام باسم الحرية، ناديتم بالعُري والسفور باسم الحرية، ناديتم بالتحرر والفجور، يا مَن سرقتُم من العقل حِكمتَه وسلامته، ومن الرُّوح طهرَها، ومِن المرأة حجابها، ومن الأخلاق رُقيَّها وسموها، ومِن الدنيا جمالَها، أتريدون أن تَسلبوا الآن من الأمَّة عقيدتَها ودِينها؟
أيَّ حرية تريدون وتقصدون؟! حرية العُري والمجون، التحرُّر من الفضيلة والصون، حرية الكفر يا من تتَّبعون أولادَ صِهْيون، سبّ الله ورسوله، وفصْل الدين، والنَّيْل من علماء المسلمين، حرية الكُفر والردَّة يا ملاعين، حرية الزِّنا والشذوذ للمراهقين، حرية الجِنس وقتْل الجنين، تحرُّر الابن من ولاية أمِّه وأبيه الأمين، تريدون أن يأتيَ الأزواج بالعشيقات، وتتحوَّل الأمهات إلى مومِسات؟!
طالبت المظاهرات بإسقاط النِّظام، وليس بإسقاط الإسلام، فدِيننا ليس ضدَّ العلم وتقدُّمِ الإنسان، لسْنا مثل الكنيسة التي حاربتِ الإبداع بالسجن والإعدام، لسْنا مثلكم يا مَن تريدون نبذَ الأديان، وحُكم الفِطرة وغرائز الحيوان، والتحرُّر من حكم الرحمن، لا يا مثقَّفون، لا نُريد حياةَ الأمريكيِّين، فنحن - المسلمين - بالدين سنظلُّ مُستَمْسِكين، على خُطَى النبيِّ الأمين، إلى يومِ الدِّين.
وَاللَّهِ لَوْ يَمْحُو الزَّمَانُ فَضَائِلاَ
وَيُبِيدُ مِنْ طِيبِ الْخِصَالِ شَمَائِلاَ
وَتَغَيَّرَتْ قِيَمُ الْأَنَامِ إِلَى الرَّدَى
وَتَبَدَّلَتْ شِيَمُ الْكِرَامِ رَذَائِلاَ
وَرَأَيْتُ مَنْ بَاعَ الْأَصَالَةَ يَرْتَدِي
ثَوْبًا غَرِيبًا مُشْمَئِزًّا مَائِلاَ
سَأَظَلُّ وَحْدِي طُولَ عُمْرِيَ ثَابِتًا
لاَ أَرْتَضِي لِلْمَكْرُمَاتِ بَدَائِلاَ
|
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/31152/#ixzz2w1IuleNO
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق