إشكاليات خطيرة: الشريعة وحرية الأقليات (1)
إنَّها لشُبهة!
قضية الحريَّات في المجتمَع المسلِم، شُبْهة كبيرة؛ لأنَّ أغلى ما يملِكُ الإنسانُ بعدَ حياتِه حريتُه.
لذلك ثار مَن ثار، وخار مَن خار؛ مِن أجْل هذه القضيَّة، وقد ظهَر ذلك جليًّا - في مصر - على سبيلِ المثال النموذجيِّ لهذه المخاوفِ - مِن خلال اللِّقاءات التلفزيونيَّة الكثيرة التي تَمَّت مع المرشَّح الرئاسي الإسلامي: حازم صلاح أبو إسماعيل، حيثُ انصبَّتْ كل المداخلات - وليس جُلّها - على قضايا تتعلَّق بالحريَّات:
قضية الخُمور، وقضية التبرُّج، وقضية شواطِئ العُري، وقضية النَّصارى وإظهار عقائدهم، والرِّبا... إلخ.
وكان التركيزُ على "استبشاع" تحريم هذه الأمور التي نشأنا عليها وتعوَّدنا عليها في العصْر التقدُّمي التكنولوجي؛ فكيف نعود مِن جديدٍ إلى نظْم القرونِ الأولى؟!
فالناسُ أصبح لها "حريَّات"، ولما تطاول عليهم العُمُر، ألِفوا حريَّاتهم بغضِّ النظر عن منظورِ الدِّين لها، ولم يَعُدْ لديهم استعدادٌ لترك "حقوقهم".
وقدْ خصَّصتُ هذه السطورَ لأستعرضَ موقفَ الشريعة مِن حريَّة الأقليَّات التي يخافون مِن كبْتها وسَلْبها، في حين أنَّ الشريعةَ أوَّل مَن وهبَها وحافَظ عليها.
وذلك لأنَّ حريةَ الأقليَّات أكبر ما أُثير، وأخطَر ما أثير في إشاعةِ الخوفِ مِن الحُكم الإسلامي، والذين يُثيرون مثلَ هذه الشبهات، يَعلمون تمامَ العلم أنَّها وهْمٌ وزيف، وكيف لا؟! وهذا كلامُ الله وكلامُ رسولِ الأمَّة - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأس أهل الولاء والبَراء:
يقول الله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
ويقولُ الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ مَن ظَلَم معاهدًا، أو انتقَصَه، أو كلَّفه فوقَ طاقتِه، أو أخَذ منه شيئًا بغيْرِ طِيب نفْس، فأنا حَجيجُه يومَ القِيامة))؛ سُنن أبي داود: 3053، صحَّحه الألباني.
وكذلك يُسمَّى أهلُ الكتاب ممَّن يُعايشون المسلمين "معاهدين" أو "ذميِّين"، والذِّمَّة العهْد، فما العهْد الذي لهم؟
إنَّه عدَم بَدئِهم بالأذَى ولا التضييق عليهم في عِباداتهم، ما لم يَخرِقوا بها الحدَّ بالتبشيرِ والدَّعوة إلى ضَلالاتِهم.
وإنَّه حِفظُ أموالهم وعدمُ الاعتداء عليهم فيها.
وإنَّه حِفظُ دِمائهم وعدَمُ إهْراقها بدون حقٍّ، إلاَّ مَن قتَل مِنهم رَجلاً منَّا، أو اغتصب منهم امرأةً منَّا، وإذا كان "المنهج" النَّظري للمسلمين بهذه الرَّوعةِ في فضْله ونَصَفته، فإنَّ الجانبَ التَّطبيقي لم يَقلَّ عن ذلك رَوْعة.
اقرأ هذه العجيبة، وليقرأْها أهلُ الكتاب:
رَوَى البخاريُّ عن عبدِالرحمن بن أبي ليلَى، قَال: كَانَ سهلُ بنُ حُنَيف، وقَيسُ بنُ سعدٍ قاعدَينِ بالقادسيَّة، فمرُّوا عليهما بجنازة، فقامَا، فقيل لهما: إنَّها مِن أهلِ الأرْض؛ أي: مِن أهل الذِّمَّة، فقالا: إن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرَّتْ به جِنازةٌ فقام، فقيل له: إنَّها جِنازةُ يهوديٍّ، فقال: ((أليستْ نَفْسًا؟!)).
فانظرْ كيف فعَل الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكيف اقتدَى به الصحابةُ الكرام.
ولكن مِن الخطير والهام بيان أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يقُمْ تقديرًا لعقيدةِ اليهودي، وإنَّما قام تقديرًا للنَّفْس الإنسانيَّة، أمَّا إذا قابل هذه النَّفْسَ في معركة حقٍّ يُنازعه باطلٌ، فليس للاحترام ثَمَّ سبيلٌ ولا عِلَّة.
ومِن التطبيقِ تعامُل الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابتِه الكرام بالحُسنى مع اليهود والنصارَى الذين كانوا يَعيشون بينهم ويَتعايشون معهم، حتى بيَّن اليهود نابًا أزْرقَ، وقلبًا أسود، فجازاهم بما يستحقُّون.
ولَمَّا قَتَل عمرُو بنُ أميَّة الضَّمْري قتيلين مِن بني كلاب، يظنُّ أنَّه ثأرٌ لأصحاب بئر معونة، وكان معهما عهدٌ مِن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يشعرْ به، أرادَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يَدِيَهُمَا، ففَعَل فِعْل المسالم حَسَن النيَّة، لقدِ استعان باليهود على جمْع الدِّية، وكان أنْ أجْلَسوه بجانبِ جدارٍ يوهمونه أنَّهم سيجمعون الديةَ، ثم كادوا كيدًا ليُلقوا عليه حجرًا يَقتُله! فانظرْ إلى نيَّته المسالِمة - صلَّى الله عليه وسلَّم - كيف كانت، وكيف كانت نيَّتُهم الخبيثة!
والموقِف الذي ملأ الزَّمانَ شهرةً، حين لم يُصَلِّ سيِّدنا عمر داخلَ كَنيسة بيت المقدِس، حتى لا يُحوِّلها المسلمون مسجدًا، وترَكها لهم.
ولم يَكُن حُسن المعاملة هذا زمَنَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقط، بل في كلِّ زمانٍ كان للإسلام فيه دولةٌ قويَّة، وأطناب ممدودة، لم يصلْ لسَمْعِ التاريخ شكوى لهم ولا نبأةُ اعتراض.
والشاهدُ: أنَّ الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومِن بعْدِه حُكَّام المسلمين - لم يكُن يعاملهم معاملةَ المنبوذين المحتقَرين، بل كان يَبيع لهم ويَشتري، وينكح منهم، ويَزور مَرْضاهم، ويُحسِن إليهم، ويُجرِي معهم المعاهدات، ويتَّخذ منهم الأحلاف، ولقدْ مات ودِرعُه مرهونةٌ عندَ يهودي.
فالأقليَّات غير الإسلاميَّة داخلَ المجتمع المسلم تحيا حياةً لا تحلم بها أيُّ أقليَّة في العالَم.
فهذا المنهجُ، وهذا تطبيقُه.
• • •
دوافِع الموقفِ الإسلامي مِن الذميِّين:
وقدْ تأملتُ الدافع وراءَ هذا الموقِف الإسلامي، فوجدتُه الحِكمةَ البالِغة، فالمعاملة الحسَنة لِمَن يُعايشون المسلمين أمْرٌ تُوجِبه الحِكمة والرَّحمة، مِن جِهتين: دِينيَّة واجتماعيَّة، فالإنسانُ له حاجاتٌ ومصالِح، واعتراضُ مصالح الأقليات يؤزُّهم على الثورةِ والكَيد والمكْر، وحين تثور الفتنُ فلا حدَّ لأذاها؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]، وظُلم المعاهد سيكون حينئذٍ فِتنة؛ لأنَّ المجتمع الإسلامي لن يكونَ كلُّه شريحةً ضدَّ الذميِّ المظلوم، وإنما يَختلفون فتنشأ الفِتنة، بخلافِ الذِّميِّ الذي خرَق ذِمَّته، فلن يجدْ له نصيرًا مِن المسلمين.
وهذه هي الحِكمة الاجتماعيَّة.
وأمَّا الحِكمة الدينيَّة؛ فالتعامُلُ الحسَن مع المعاهدين يُعطي الصورةَ الحقيقيَّةَ للإسلام لقومٍ لا يعرفونه ويُخالفونه، وهو دِين الرَّحمة واليُسر والتسامُح، وهذه القِيَم أصليَّة وأصِيلة فيه، ولا يُخالِف أهلُ الإسلام هذه القِيَم إلا في نِطاق ضيِّق تَقتضيه الحِكمةُ كذلك، حين لا يَجوز وضْعُ الرحمة موضعَ القسوة، ولا وضْع الرِّضا موضعَ السُّخط، من الحكمة استخدام الرحمة والقسوة كل في موضعها؛ قال تعالى: أشداء على الكفار.
• • •
في المقال التالي نتناول شُبهتين كبيرتين يُثيرهما المستشرقون، ونتناول الردَّ عليهما..
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/54604/#ixzz2w1vBAPTJ
إشكاليات خطيرة
تطبيق الشريعة الإسلامية (2)
في المقالِ السابِق عرضتُ أطيافًا مِن المجتمع تختلِف مواقفها مِن تَطبيقِ الشريعة، وهذه المواقفُ تَكمُن خلْفَها دوافعُ تتعدَّد وتختلِف، منها دوافعُ ذاتية، ومنها دوافعُ خارجيَّة.
فالدوافع الذاتية:
وهي النابعةُ مِن ذات الشخْص لم يؤثِّر عليه فيها مؤثِّر خارجي، ومنها على ما بدَا لي:
1- إرادة الخير بعدَ تصوُّرٍ خطأ:
أراد فريقٌ الخيرَ للأمَّة، فسلَك لذلك الباب الخطأ.
إذْ يَخافون أن ينتج مِن تَطبيق الشريعةِ الإسلاميَّة في المجتمع المعاصِر كوارثُ.
بعضُهم يقول: إقامَة الشريعةِ والحدود ستؤدِّي إلى ثورةِ بعض "المواطنين" مِن المسيحيين "الذين سيُظلَمون ظلمًا بيِّنًا، وتُقمَع حريَّاتهم قَهرًا وغلَبَة"، وهذا لن يُحقِّق الاستقرار في المجتمَع بحال، ومجتمع غير مستقرٍّ لن يكونَ فيه بيئة للتقدُّم والرقيِّ، وسنزداد فَقرًا على فقرٍ، ومرضًا على مرَض.
وبعضهم يقول: حين تُطبَّق الشريعة لن نرَى غيرَ قطْع الأيادي والرِّقاب، وسلْخ الظهور بالسِّياط، وإقامةَ الحدود بهذه الصورة ستؤدِّي إلى عذابٍ أليم، وستكون مستجدَّاتٌ لا تَحتملها ظروفُ العصر الحديث الذي جعَل العالَم كلَّه قريةً واحدة، يرى فيها المرءُ "حريَّات غير محصورة"، واحترمًا "لخصوصية الغَيْر".
وبعضهم يقول: تطبيقُ الشريعة الإسلامية على هذا النَّحو سيؤدِّي إلى تدخُّل الدول المعادية للإسلام؛ بحُجَّةِ حقوق الإنسان، ممَّا يهيِّج حربًا كبرى في المنطقة، وسنصير محلاًّ للاحتلال الأجنبي.
فلمَّا تصوَّر هؤلاءِ ذلك، دَعاهم هذا التصوُّر إلى معارضةِ تَطبيق الشريعة؛ خوفًا على المجتمَع مِن التبعات المعاصِرة، وسوف أُناقِشُ هذا التصوُّرَ في مقامه.
2- اعوجاج السلوك:
الأنبوب المعوج لا يَقبل الشعاع المستقيم.
لذلك؛ فلا غَرْوَ أن نجِد اللصَّ والقاتل، والرَّجل الفاحِش البَذيء، وأهل الدعارات والخمَّارات - أوَّل مَن يَكرهُون تطبيقَ الشَّريعة؛ لأنَّ الشَّرْع مستقيمٌ، فلن تَقبلَه نفوسُهم المعوجة.
وهذه قضية واقعيَّة.
مَن لم يتَّخذ اللهُ إلهًا، اتَّخذ إلهه هواه.
وإذا كان ذلك رأيتَهم: ﴿ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الزمر: 45].
♦ ♦ ♦
والدوافع الخارجية:
وهي عواملُ خارجةٌ عن الإنسان توجِّه فِكرَه، وتُشكِّل تصوُّراتِه، منها:
1- الإعلام:
لا شكَّ أنَّ أفلامَ عادل إمام عن المسلِم الإرهابي والمسيحي الملتزِم الدَّيِّن، ومسلسلات "لا تناقِش ولا تجادِل يا أخ علي"، وأضراب هذا الإعلام المبطِل المفسِد، كَوَّن صورةً مشوَّهة للإسلام والشريعة الإسلاميَّة في أذهانِ الذين يَتَربَّون ويُربُّون أَبناءَهم على غذاءِ القنوات العلمانيَّة والفِكر المتحرِّر المنحلّ.
والشاشة الصَّغيرة - في دِراسات أكاديميَّة - لها مِن الأثَر ما يَعجِز السحرُ عن بلوغِه.
واللِّسانُ ينطق بمخزونِ العقل، والعَقل تُسَيِّره معطياتُ الحواس.
فإذا كان السَّمع والبَصر والفؤاد ممتلئين بالباطِل، فلا بدَّ أن يكونَ العقل ممتلئًا بالباطِل، ولا بدَّ كذلك أنْ يكون السلوكُ كلُّه باطلاً.
فمُعظم الذين يَكرهون تطبيقَ الشريعة إنْ هُم إلاَّ ضحايا للفِكر العلماني المستمَدِّ مِن القنوات الفضائيَّة.
وأعجَبُ العجَب - واللهِ أعجب العجب! - أنْ نرَى مسلمين يجلسون أمامَ قناة (الكرامة) و(الحياة) النصرانيتين يستمعون للتشويهاتِ والأباطيل والشُّبهات والشهوات.
ثم يَتكلَّمون عن بشاعةِ تَطبيق الشريعة.
خيَر تعليق أنْ نقول: لا تَعليق!
2- التعليم:
تَنتشِر في بلادِ المسلمين مدارسُ ليستْ مِن الإسلام في شيءٍ.
لا أقول: نِظام الدِّراسة فقط، وإنما أعْني بالأكثر مناهِجَ الدِّراسة.
إنَّ الطلاب يَدخُلون المدرسةَ وهم يعلمون أنَّ دِينهم الإسلام، وأنَّ رَسولَهم محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم إذا بدأتِ الدراسة تَعلَّموا في مناهجِ التربية الإسلاميَّة أنَّ: "دِين الله واحِد".
عنوان حقّ يُراد به باطِل.
فالدِّين واحد في ضوءِ التتابُع التاريخي، وليس في ضوءِ المعاصَرة الآن.
فالأدْيان الأولى واليهوديَّة الأولى والنصرانيَّة الأولى والإسلام، كلُّ ذلك واحِد مِن حيث كانتِ الأنبياءُ جميعًا تقول قولاً واحدًا: لا إله إلا اللهُ، وكلُّ ما عدَاه خلقٌ له تعالى.
أمَّا أنْ أُساوي بين دِين يهودي محرَّف ودِين نصراني محرَّف، وبيْن دِينٍ إسلاميٍّ سليمٍ، فهذا هو التدليسُ الخبيث.
وما "مَجمَع الأديان" في مِصر إلا دليلٌ على هذا التدليس.
والنتيجة الطبيعيَّة لهذا التدليس أن يَعتبِر الطالبُ المسلم أنَّ الأديان كلَّها سواء؛ شيء جميل!
إذًا فالشريعةُ التي تُبيح أفضلَ مِن الشريعة التي تحرِّم.
والدِّين الذي يُبيح الخَمر والعُري ولا يوجد فيه عقوباتٌ على الجرائِم إلا "الاعتراف" أمامَ رجلِ الدِّين، هو دِينٌ - في نظر المتعلِّمين المستجْهَلين - خيرٌ مِن دِين يُحرِّم ويعاقِب.
هذا جانبٌ مِن التعليم.
والجانِبُ الآخَر من التعليم:
البعثات..
أعرِف ثُلَّةً مِن الطلاب يذهبون إلى أوروبا، ثم يعودون بغيرِ الوجه الذي ذَهبوا به؛ يَذهبون طلابًا ذوي عِلم، ثم يعودون دكاترةً جاهِلين!
وما كان "طه حسين" إلاَّ مثالاً واحدًا تَبِعه مِن بعدُ أمثلةٌ كثيرة.
ومَن درَس في الجامعاتِ رأَى وسَمِع.
هذا، وكانتْ تلك السطورُ كشفًا للمرَض، فليكن المقالُ التالي بإذنِ الله وَصفًا للعلاج.
3- فساد المجتمع:
يقولون الطبع يغلب التطبع.. إلا في هذه الحالة.. فإن التطبع غلب الطبع..
فالفطرة الإنسانية تنحرف.. وتنجرف.
كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما مِن مولودٍ إلاَّ يُولَد على الفِطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه... الحديث))؛ [البخاري: 1358].
فكذلك يُولَد جيلٌ في بِيئة فاسِدة ويرَى التطبيقَ العملي في المجتمع للتنظير الفِكري في الإعلام والتعليم، فينساق ويَغرَق، حتى يُصبحَ الصوابُ خطأً، ويصبح الخطأ صوابًا.
وصَدَق رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ قال: ((إنَّها ستأتي على الناسِ سِنون خدَّاعة، يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّب فيها الصادقُ، ويُؤتَمن فيها الخائِن، ويُخوَّن فيها الأمين، ويَنطِق فيها الرويبضة))، قيل: وما الرويبضةُ؟ قال: ((السفيهُ يَتكلَّم في أمْر العامة))؛ "مسند أحمد" (7899)، وحسَّنه الشيخ الأرناؤوط، وهو في الصحيحة دون قوله: "وما الرويبضة".
فهذا الجيلُ الذي يُولَد في هذا الزَّمان، وهذه البيئة لا بدَّ أن يكونَ رأيه في الشَّريعة أنَّها تَجاوزَها العصر، وأنَّها لا تَصلُح للقرنِ الحادي والعِشرين، ولا بدَّ أن تكونَ بصيرتُه عشواءَ.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/56881/#ixzz2w1vRJo7w
إشكاليات خطيرة
تطبيق الشريعة الإسلامية (3)
قد عرَضْنا في المقالينِ السابقين أطياف الرَّافضين لشريعةِ الربِّ، وذكَرْنا طرفًا مِن الدوافع الذاتيَّة والخارجيَّة، التي تحدو كلاًّ منهم ليكون على هذا الرأي الشاذّ.
وفي هذا المقال أُناقِش الدوافعَ الذاتيَّة وأبيِّن ما وراءَها مِن باطل، حتى يدافعَ كلُّ امرئ نفسه فيما تحسُّ به وتشعُر، وعقله فيما يُدبِّر ويُفكِّر:
1- الردُّ على مَن يخشى تبعاتِ تطبيق الشريعة:
بادِئ ذِي بَدء: هل يُخشَى مِن تطبيق الشريعة التي ظلَّتْ تَحكُم العالَمَ الإسلاميَّ طِيلةَ ألف وثلاثمائة وسبعة وسبعين عامًا؟!
حين أُلغِيت المحاكمُ الشرعيَّة وبَقِيت المحاكمُ الأهليَّة عام 1955.
إنَّنا حُرِمنا مِن حُكم الشريعة الإسلامية ما يُقارب 56 عامًا فقط، حدَث فيها الثَّغرة الجبَّارة في مجتمعاتنا، والتشوُّه الرهيب في أخلاقِنا وعاداتنا.
أيها الناس:
إنَّ البُعد عن المنهاج، يُورِث الاعوجاج.
أقول لِمَن يخافون تَطبيقَ الشريعة: أين كانتِ المشكلاتُ التي عنها تتحدَّثون طِيلةَ هذا التاريخ؟!
متى كان الناسُ يتذمَّرون مِن كبْت حريَّاتهم، ومتى كان في التاريخ الإسلامي ثورةٌ واحدةٌ نَشبَت لهذا السَّبَب؟!
ومتى قامتِ الأقليَّات الدِّينيَّة تشكو كبْتَ حريَّاتها، في جزءٍ مِن أجزاءِ هذا التاريخ؟!
إنَّ أسعدَ الأقليَّات في العالَم - كما يقول الشيخُ الغزاليُّ - هي الأقليَّاتُ النصرانيَّة واليهوديَّة في مجتمعٍ إسلامي.
ألم يَكُن الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- يعايش اليهودَ والنَّصارى، ويجاورهم في أنحاءِ المدينة؟
ألَم يكونوا كذلك في عهدِ الصَّحابة ومَن بعدَهم.
إلاَّ مَن اعتدَى وخان، فنال جزاءَ سيِّئة بمِثلها.
ثم لم يَشتكِ مِن هؤلاء أحدٌ يومًا مِن الأيَّام.
ولم يَشتكِ أحدُهم يومًا مِن الأيام إلاَّ ونال حقَّه، وزِيادة.
هذا عمرُ بن الخطَّاب حينما يَعتدي ابنُ سيدنا عمرو بن العاص على ابنِ رجلٍ قِبطي، وكان سابَقَه فسَبَقَه القِبطيُّ، فضرَبه، وقال: أتَسبِق ابنَ الأكرمين؟!
ولما أرْسل القبطيُّ إلى عمرَ بنِ الخطَّاب بالشكوى، أحْضَر عُمرُ عَمرًا وابنَه ومعهما القبطي وابنه، وأعطَى السوطَ للمضروب.
وقال: اضربِ ابنَ الأكرمين!
اضربِ ابنَ الأكرمين!
أين هذا الظلمُ الذي يَنال هؤلاء؟!
وكان ذلك في منَعَةِ المسلمين وقوَّتهم، فما بالُنا بزَمانٍ حالَ فيه حالُ المسلمين قِلةً بعدَ كثرة، ونَقصًا بعدَ زِيادة؛ لبُعدهم عن شريعةِ ربِّهم.
♦♦♦♦
وأمَّا الردُّ على الذين يخافون ثورةَ المجرمين بعدَ عِقابهم العقابَ الشرعيَّ، وتَقييد فسادِ الفاسداتِ في شوارع المسلمين يُرِدْنَ أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا، ويَحتكمون إلى هيئاتِ حقوقِ الإنسان واحترامِ خصوصياتِ الفَرْد.
فإنِّي أقولها صريحةً:
الحريَّةُ لا تُعطَى إلاَّ لِمَن يستحقُّها ويحترمها.
فأنْ نجعلَ اللصَّ حرًّا في أنْ يسرقَ بُيوتَنا.
وأنْ نجعلَ العاهرَ حرًّا في أن يَعتدي على نِسائنا.
وأنْ نجعلَ الضالَّ حرًّا في أن يَفتنَنا.
فهذا ما لا يقوله رأيٌ حَكيم، ولا عقلٌ سليم.
لا حُريَّة لهؤلاءِ، ولا شفيعَ لهم ولا نَصير.
فالخصوصيةُ لِمَن لم يَفْضَحْ نفْسَه.
أمَّا مَن يَفضَح نفْسَه بالمعاصي يَقترفها عِيانًا، فلا احترامَ لخصوصيته.
والإسلام لم يُكلِّفْنا أنْ نكسِر على الناسِ بُيوتَهم؛ لنثبتَ ما يفعلون مِن معاصٍ.
إنَّما كُلِّفنا أن نُعاقِب مَن جاهَر بالمعصية ممَّن انتزَع الشيطانُ حياءَهم، وشوَّه فطرتَهم.
ثم مَن رأى قبلُ أنَّ المحدودَ في زمانِ الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- ثار على الحدِّ، ونَظَّم التمرُّدَ والعِصيان؟
إنَّ المجرِم يعلم أنَّه مجرِم، وكان المجرمون مِن قبل يُقدِّرون أنهم يستحقُّون العقاب، أمَّا في هذا الزمان، فالمجرم يُريد أن يُعاقبَ البريء وينتقم مِن الضحية!
هذه مقاييسُ آخِر الزمان.
♦♦♦♦
وأمَّا الذين يخافون التدخُّلَ الأجنبيَّ في شؤون البِلاد؛ بحُجَّة حقوق الإنسان إذا طُبِّقتِ الشريعة، خوفًا مِن ظلمِ طوائفَ معيَّنة، أو الجَور على حقوقِ الأفراد، فهؤلاء واهمون.
هل كان الاحتلالُ الأمريكيُّ في العراق وأفغانستان بحُجَّة الشريعة؟!
وهلْ كان الاحتلالُ الإسرائيليُّ لفلسطين بحُجَّة الشريعة؟!
إنَّ المُعتدِي لا يَعتدي إلا في حالةٍ واحِدة.
إذا استضعف الطَّرَف المعتدَى عليه.
أمَّا أصحاب القوَّة الاقتصاديَّة والثقافيَّة والسياسيَّة، فهؤلاء "معصومون" مهما كانوا يَفعلون.
فالقويُّ عزيزٌ أبدًا عندَ أُمم العالَم، والضعيف ذليلٌ أبدًا عندَ أُمم العالَم.
كان الناس ((إذا سَرَق فيهم الشَّريفُ ترَكوه، وإذا سرَق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ))، وهذا ما تفعله أمريكا - قُطب القوَّة العالميَّة المزعوم الموهوم - مع الصِّين في أزماتِها الدبلوماسيَّة، ومع كوريا الشماليَّة في قضية التسلُّح النوويِّ، ومع إيران التي تَقوَّت، تنظُر بعين الشرِّ هنا وهناك.
فلماذا نخاف نحن ممَّن هو أوْلى أن يخافَ منَّا؟!
فالأعداءُ الذين يَحمُون المجرمين لا سُلطانَ لهم على أُمَّة حُرَّة عزيزة، هذا قانونُ الدُّنيا، وميزان القوَّة والضعْف.
ولو كانتِ الدولُ تُعاقَب لانتهاكها حقوقَ الإنسان، لكانتِ الدول القويَّة التي لا تُؤمِن بالله حقيقةً أوْلَى بالعقاب؛ مِن أجل "سحقِها" حقوقَ الإنسان داخلَ وخارج أراضيها.
♦♦♦♦
2- الردُّ على اعتراضِ أصحابِ السُّلوك المعْوَجّ:
إنَّ أبلغ ردٍّ على هؤلاءِ أن يُقال لهم: لماذا لا تَستقيمون على حُكم الأعراف الاجتماعيَّة؟!
فما أتَى الدِّين إلاَّ مُحِقًّا لصالحها، مبطلاً لطالحِها.
فالمرأةُ حين تتبرَّج في شوارعِ المسلمين تكون فريسةً لعقدةٍ نفسيَّة.
إنها تحبُّ المدْح، والغواني يغرهنَّ الثناءُ.
وتحبُّ الظهور.
ولكنَّها في هيئتها تلك تعرِف أنَّها ممقوتةٌ مِن الصالحين في المجتمع، ومِن عامَّة الشعب الطيِّب.
وإنَّ أيَّ أحدٍ ممَّن يفعل أفعالَ المعوجِّين، أو يستحسن أفعالَ المعوجين، لا يمكن أن يُقرَّ لك بتحليله هذا الاعْوِجاج.
وإنما قُصاراه أن يعترِفَ ويستمرَّ في الضلالة.
أو يحاول أن يجرَّك لتضل، فتكون أنتَ وهو سواءً في الضلالة.
فيَأمَن بضلالِك أن تُنكِر عليه ضلالَه.
فتظلُّ هذه ويظلُّ هذا في عذابٍ كبير.
إمَّا مِن قِبَل رفْض المجتمع الذي فيه بقيةٌ مِن خير لسلوكِه واعوجاجه، فيتمثَّل نفسَه دومًا مجرِمًا مُبْعَدًا.
وإمَّا مِن قِبَل إحساسِه - إنْ كان لا يَزال به إحساسٌ - بأنَّه "شيطان" مِن شياطين الإنس، لا يَسكُن عن إغواءِ المجتمع.
هي أمورٌ بيِّنة.
هل رأيتُم أحدًا أبدًا يَستحي ويَخزَى مِن أن يَعرِف الناس سبقَه للخيرات وفِعْل الصالحات؟!
هلْ يُمكن للمريض المشرِف على الهلاك أن يرفُضَ العلاج، ثم يوافقه مَن حولَه مِن أهلٍ وأطبَّاء؟!
إنَّنا نحتاج أن نردَّ على رافضي الشريعة بنَفْس شِدَّة ردِّ أهل المريض وأطبائِه عليه.
إنَّ هؤلاءِ مَرْضَى، ومضطرُّون إلى العلاج.
وقد أثْبَت العلاج "الوضعي" فشلَه في علاجِ أمراض الناسِ القلبيَّة والرُّوحيَّة والسلوكيَّة، فمِن الحقِّ المبين أن نَحملَ هؤلاءِ حَمْلاً على قَبول "العلاج الرباني".
لأنَّه لزامٌ على كلِّ بصير أن يأخُذَ بيد كلِّ أعْمَى!
والله المستعان.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/60690/#ixzz2w1vYceFt
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق