قضايا الحرية الصحفية وضوابطها الشرعية
(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)
"تعدد الزوجات يناقض حقوق المرأة، وينتقص من إنسانيتها"، و"إقامة الحدود والزواجر الشرعيَّة يهدر كرامة الإنسانِ، ولا يتلاءم مع روح الحضارة المعاصرة"، و"الحكم بكفر اليهود والنَّصارى يزرع الكراهية الدينيَّة"، و"الجهاد إرهاب"، و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخُّل في الخصوصيَّة، وتضييق على الحرية الشخصيَّة"، و"إقامة حد الرِّدَّة يصادر حرية الاعتقاد"، و"تعاليم الإسلام وأحكام الشَّريعة تتصف بالتخلُّف عن معايير العصر وقيمه، وتُحرض على انتهاك حقوق الإنسان، وتهضم المرأة، ومستمدة من القرون الوسطى[1]"... إلى آخر هذا الهذيان.
هذه الطامَّات المُرديات، والمُفتريات الوَاهيات التي تغمز بأحكام الشَّريعة الغرَّاء، وتطعن في مبادئها وقيمها، وتلمزها بالتصريح حينًا، وبالتلميح أحيانًا - لم تُكتب في هولندا ولا في الدانمارك، ولم يَخطَّها بنان يهودي، ولا قلم نصراني؛ بل هي مبثوثة في بعض صُحُفنا المشهورة ومجلاتنا المنشورة هنا وهناك، بأقلام كتَّابٍ وأدباء وأشباههم من أبناء جِلْدَتِنا، وينطقون بألسنتنا، وينتسبون إلى هذا الدين نفسه الذي يعيبونه، ويطعنون فيه - عياذًا بالله - باسم النقد الذاتي تارة، والاجتهاد والتجديد أخرى، أو باسم الوسطية والاعتدال، وهو أعجبها؛ لكن أكثرها ما يُسَوَّغ ويبرَّر بما يُسمى الحرية الصحفية، أو حرية الرَّأي والتعبير والنشر، ترى، هل فكَّر هؤلاء - فُضَّت أفواههم - فيما تلوكه ألسنتهم، وما تخطُّه أقلامهم من إفكٍ وزورٍ؟! وما آثاره وعواقبه على الفرد والمجتمع؟!
لكن عذر هؤلاء الكَتَبةُ أنَّهم لا يفقهون كثيرًا مما يكتبون، ولا يبصرون أين يرمون، ويصدق فيهم وصف إمام البلاغة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "همج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق"[2]، نسأل الله العافية من هذه الأقوال الواهية المفضية بقائلها إلى الهاوية؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ))[3].
| يَا رَبِّ غَفْرًا قَدْ طَغَتْ أَقْلاَمُنَا يَا رَبِّ مَعْذِرَةً مِنَ الطُّغْيَانِ |
إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بِلُبِّه كل مأخذ، حين يرى ويسمع أدعياءَ الحرية وحقوق الإنسان هؤلاء، يقولون منكرًا من القول وزورًا؛ يُريدون ترسيخَ قيمِ الفلسفة المادية والفصل بين الدين والدولة وبين الدين والمجتمع؛ ليهبطوا بالآدميِّين إلى حياة بهيمية محضة، استمرؤوا العيشَ في أوحالها.
لكن السؤال الذي يفرضُ نفسه في سياق الحديث عن مفهوم الحرية الصَّحفية:
هل الحرية الصحفية تبيح للصحفي أو الكاتب تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وتحسين القبيح، وتقبيح الحسن، وأن يُشرع للنَّاس ما لم يأذن به الله سلطانًا، ويَمسخ بذلك الفطرة التي لا تبديلَ لها، أو أنَّ الحرية الصحفية تبيحُ لكل ذي قلم أو لسان السبَّ والشتم، وتجريح العدول، وقذف الغافلات، والعدوان على الأعراض والحرمات، والتهكم بالأشخاص والهيئات، كتابة أو رسمًا أو بغيره من أشكال التعبير المختلفة؟!
نعم يا قُرَّائي الأفاضل، باسم هذه الحرية وتحت مظلتها، تُشنُّ هذه الغارة الشعواء من قبل كثيرٍ من دعاة ورموز الليبرالية والعلمانيَّة والتغريب؛ يتذرعون بها لهدم الثَّوابت، والتشكيك بالمسلمات، وزعزعة ما عُلِم من الدين بالضَّرورة، ولتفريغ الإسلام من محتواه؛ ليصير (هيولى)[4]، لا شكل له، ولا لون، ولا طعم، ولا سمات، ولا خصائص، ولا معالم، ولا حدود؛ ليتلاءم - حسب فلسفتهم السقيمة وأهوائهم الزَّائغة - مع كل الأذواق والميول والشَّهوات والأمراض النفسية والعقلية، وليتطور كما تتطور الأزياء والعادات، وليخدم كل طاغٍ وباغٍ.
تقرير حرية الرأي والتفكير والتعبير:
في البدء نقول لذوي النُّهى:
إنَّ ديننا لا يجد حرجًا من تقرير حرية الرأي والتفكير والتعبير؛ لأنَّه الدين الحق، وحرية التفكير تخدمه وتُؤيده، ولا تعارضه ولا تناقضه؛ لكن الباطل هو الذي يرعبه هذا النَّوع من الحرية؛ لأنَّها تكشف زيفه وفساده، ولذلك نجده يعمل على خنقها، أو أنه يأذن بحرية شكلية، لذرِّ الرماد في العيون، وبغرض الدعاية ليس غير، هي بالفوضى أشبه وإليها أقرب، يختلط فيها الحابل بالنَّابل، وتكمم فيها أفواه أصحاب الفضيلة، وترسل ألسنة أصحاب الرذيلة وأقلامهم بلا رقيبٍٍ ولا حسيبٍٍ.
أمَّا الإسلام، فتجده يحضُّ على التفكر والتدبر وإعمال العقل في خلق السموات والأرض، وما فيهما من آياتٍ وأسرارٍ، وما أكثرَ الآياتِ القُرآنيةَ الداعية إلى ذلك، وهذه من أعظم تجليات حرية العقل والفكر.
وكذلك يدعونا ديننا إلى النظر في التاريخ وسننه وفقه العواقب والمآلات؛ نحو قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} [آل عمران: 137].
ويحض أيضًا على تدبر القرآن وأسراره، في مثل قوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وغيرها كثير لا حَصْرَ له، ويطول سرده، فهل دعانا ربنا إلى التفكير ثم منعنا من التعبير؟ وما جدوى التفكر والتدبر إذا لم ينتفع المتدبر بثمراته التي يكشف عنها التعبير والنشر؟
لا تعارض بين العقل والنقل:
ومما لا يخفى أمره على أحدٍ أنَّ أوروبا - قبلة هؤلاء المتفرْنجين - التي عانت التخلُّف والانحطاط المادي والمعنوي إبَّان القرون الوسطى - هي التي كمَّمت فيها السلطة الكنسية الدينية الأفواه، ومنعت الرأي، واضطهدت العلماء، وسامَتْهم سوء العذاب، وحملت الناس بالإكراه على تبني آرائها ونظريَّاتها المخالفة لحقائق الكون والحياة والفطرة، ورفضت كل ما يعارضها.
بينما الإسلام - على خلافها - يُوافق العقل النقل في قضية الاجتهاد، دون أنْ يقعَ بينهما تناقض أو اختلاف، وَفْقَ قاعدة "مطابقة صحيح المنقول لصريح المعقول"، التي أفاض فيها وأجاد شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" وغيره، وأثبت أنه "ليس في صريح المعقول ما يناقض صحيح المنقول، وإنَّما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل، وليس منه"[5]، وهذه العبارات - لله درُّ قائلها - خلاصة القول في هذه المعضلة، ولا يتسع المقام للتفصيل.
الإسلام يمقت التبعية العمياء:
كما أنَّ الإسلام - والكلام في سياق تقرير حرية التعبير وتأصيلها - يمقت التقليد الأعمى والتبعية، ويحب الاستقلال وقُوَّة الشخصية؛ لأن المستقلَّ برأيه يُعمل عقله ولا يهمله، ويُنعِمُ النظر في كل ما يواجهه، ويشغِّل مواهبه، ويستثمرها، ويجِدُّ في تهيئة الفرص واقتناصها، ليبدع ويخترع، ويعطي بلا حدود؛ ولذلك فإنَّ ديننا يكره الإمَّعة الذي يعطل عقله ومواهبه، ويعيش مقلِّدًا غيره مستوردًا لبضاعته ومستهلكًا لها "بعُجَرِها وبُجَرِها، حلوها ومرِّها، ما يحمد منها وما يعاب"، كما هو شأن كثيرٍ من مقلِّدة الغرب والمفتونين به؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا؛ وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلاَ تَظْلِمُوا))[6].
التأصيل الشَّرعي للحرية الصحفية، وارتباطها بفريضة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر:
الحرية إحدى مُقومات الشخصية السويَّة، وأساس أي مُجتمع إنساني كريم، وشرطٌ ضروري لكل تطوير أو إصلاح، هذا ومن أهم أشكال الحرية في الحياة المعاصرة: الحرية الصحفية والإعلامية، التي يسميها بعضُهم بالسلطة الرَّابعة، وهي كذلك حقًّا إذا أُحسِن استخدامها وتوجيهها، فالصَّحافة الجادَّة سلطة أدبية معنوية راقية، مهيبة الجانب جليلة القدر، تقوم بالرقابة على أداء الدولة والمجتمع عامَّة، والنقد وتقويم الخلل، والإسهام في إصلاح الحياة السياسية والاجتماعيَّة والاقتصادية، وديننا لا ينكر الحرية الصَّحفية بهذا المعنى، وفي حدود هذا القدر؛ بل يعتبرها وسيلة فعَّالة لتغيير المنكر، وتندرج تحت المرتبة الثانية منه، وهي التغيير باللسان، وتغيير المنكر - كما هو معلوم - ليس عملاً مباحًا أو مستحبًّا فحسب؛ بل هو فريضة اجتماعيَّة ومن واجبات الأمة، وهو علامة عافيتها وازدهارها، بينما تعطيل هذا الواجب وإهماله والتقاعس عنه يعتبر من أمارات تأخُّر الأمة وانحطاطها، وهو مؤذن بهلاكها واستبدالها، عياذًا بالله؛ كما قال رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِى تَهَابُ الْظَالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ))[7].
حرية مقيدة، نعم، لكنَّها حرية حقيقية بلا عوائق ولا عراقيل:
ويذلل الإسلام العوائقَ التي تعرقل حرية النَّقد والتعبير؛ ولذلك تجده يحضُّ على قول الحق، وألاَّ يَمنع المرءَ منه خجلٌ ولا وجلٌ، وألاَّ يدعه؛ خشيةَ العامة أو مهابةَ السلطان؛ كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ))[8]، وعن أبي هريرة قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم – دَيْنٌ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: ((دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً))[9]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً))، يعتبر تأسيسًا لحرية الرأي والتعبير، وما أحسنه من شعارٍٍٍ لو ترفعه المؤسسات الصحفية والإعلامية، وتقيم عليه مناهجها وبرامجها!
الجهر بكلمة الحق في وجه الجبابرة والحكام الظلمة:
وتعلو منزلة الجهر بكلمة الحق إذا قيلت في سياق مُواجهة الاستبداد السياسي الذي يكمم الأفواه، ويكتم الحق، ويضلل الناس، ولا يفتأ يقول لهم مقالة فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، وهذا اللون من الجهاد السياسي هو أفضل الجهاد؛ كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلاً مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ، أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ))[10]، وما أجلَّ تلك الصحافة التي تترسم خُطَى مؤمن آل فرعون، الذي صدع بالحق في وجه الظلم والطغيان، متحليًا بالشجاعة الأدبية والحكمة السياسية!
الشورى والحرية صنوان:
ومن شرائع الإسلام ومبادئه العامة التي تصَبُّ في هذا الغرض: مبدأ "الشورى"، والتي وردت في آيتين في القرآن الكريم، تُلزم الأولى الحاكم بالمشاورة، فتقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وتلزم الثانية الأُمَّة بالشورى، فتقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
والشورى التزام شرعي يدخل في باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ويؤسس أيضًا لحرية الرأي والتعبير؛ لما بينهما من تلازم وارتباط، فلا معنى للشُّورى إذا أُلغيت الحرية، وسُكِّرت الأفواه، ومُنِِِع الرأي، والشريعة طافحة بما يؤصِّل لهذا اللون من الحرية، وسنذكر أمثلة ذلك، إن شاء الله تعالى.
حدود حرية الرأي والتعبير والنشر:لا حرية مطلقة، ومن يزعم غير ذلك فقد كذب، وإن وجدت فهي فوضى مدمرة، ولأجل ذا لفَت علماءُ الإسلام الانتباهَ إلى صفاتٍ وضوابطَ، تقتضيها ضرورة حماية الفرد والمجتمع عامَّة وتحقيق الأمن الفكري خاصة، لا يسَع الصحفي إهمالُها، ولا ينبغي أن يقصِّر فيها كاتبٌ أو ذو قلم، ومن أهمِّ هذه الضوابط:
- التثبُّت من الأخبار، وألاَّ يبثَّ الصحفي كلَّ ما يسمع، وفي الحديث الصحيح: ((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ))[11]، وكما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، ومن يطَّلع على سبب نزول الآيات يُدرك مدى خطورة تلفيق الأخبار الكاذبة، فلا ينبغي ولا يليق بالصحافة أن تكونَ مطية لأصحاب الأغراض والغايات الذين يستغلونها؛ لترويج الإشاعات، ونشر الدعايات، وتتبُّع العورات، وتصيُّد الزلات، خاصَّة إذا كانت تتعلَّق بأهل الخير والصَّلاح، فهؤلاء الأصل فيهم البراءة من كل ما يشينهم، فإن أخطأ فهي زلة، وأهل النبل والمروءة وكرام الناس يسترون الزَّلات، ويقيلون العثرات، ويلتمسون المعاذير، ويحسنون الظن، وكما جاء في التوجيه القرآني عقيب حادثة الإفك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].
أما الفسَّاق المجاهرون بالظلم والإفك، فلا حرمة لهم ولا كرامة، وليس لهم عرض محترم، ولا يُظنُّ بهم إلا السوء، وهؤلاء هم الذين يجب على الصحافة رصد مواقعهم ومواقفهم، وتتبع خطواتهم، وفضح مخططاتهم، وإحصاء حركاتهم وسكناتهم وخطراتهم، وعدُّ أنفاسهم إن استطاعت.
وليحذر الصحفي أيضًا من الوقوع والاسترسال في الغِيبة والنميمة، بذريعة حرية الرأي والتعبير، أو الحرية الصحفية، فهو من تلبيس إبليس على الصَّحفيين، وما أكثر أولئك الذين يُستدرَجون بمثل هذه الحيلة النفسية؛ قال تعالى: {... وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12]، فالوقوع في الغيبة والنميمة وفتح المجال لمثل هذه الجرائم تحت مظلة حرية الرأي والتعبير والنشر، إنَّما يوقع في التهلكة، ويعمل على تقطيع أواصر المودة بين الناس، وفي الصحيح: ((... وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ))[12]، قال النووي: "معناه إذا أراد أن يتكلمَ، فإن كان ما يتكلم به خيرًا محققًا يُثابُ عليه واجبًا أو مندوبًا، فليتكلم، أو إن لم يظهر له أنه خيرٌ يُثابُ عليه، فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنَّه حرام أو مكروه أو مباح أو مُستوِي الطرفين"[13].
ثُمَّتَ إنَّه من الضوابط الشرعية للحرية الصحفية: اجتناب الجدال والمراء؛ لأنه يسبب التخاصُم والتقاطع والتدابُر، ويوغر الصُّدور، ويزرع الكراهية، ويُثير الفتن، مثل كثير من الخصومات التي تندلع على صفحاتِ الجرائد والمجلات والمنتديات والقنوات والمواقع؛ بل تقع أحيانًا على منابر الجمعة، ويُؤدي هذا التخاصم إلى شرور عظيمة، تؤجج فيها العداوات، وتُغذَّى فيها أسباب الفرقة والشقاق، وتفضي إلى تقطيع أواصر المجتمع الواحد، وإنهاك قوته، وفتك أعدائه به، ولو نُظرت المعاني بعين الإنصاف لا بعين الشَّهوة والتعصب للمذاهب والأهواء، لَلاحت للباحث الحصيف الحقائق، واتَّضحت الطرائق.
هذا؛ وإنَّ مِما يدعو للأسف أنَّ بعضَ برامج البث الفضائي تقوم على التحريش بالمتحاورين، كالتحريش بالدِّيَكَة والكباش.
وليس من الحرية أيضًا الكذب والتلفيق والاتهام بغير دليل، والقذف بلا بينة، كلا، لا ينبغي أن تكونَ غايتنا التشهير والتجريح؛ بل الإصلاح والنُّصح لأئمة المسلمين وعامتهم، ومن الضَّوابط الضَّرورية: ألاَّ نتهم قبل أن نتبيَّن ونتثبت، وألا نتتبع الأقاويل والإشاعات، وألا نكذب، فكذبة الصَّحافة اليوم تملأ الآفاق، وتبلغ مشارقَ الأرض ومغاربها، وتدخل كل بيت، وكذلك ينبغي أن نكونَ موضوعيِّين واقعيين، ولا يغرّنا قول قائل: إنَّ الصحافة تقوم على الإثارة والتضخيم.
وليقتصر صاحب التخصُّص على تخصُّصه، فلا يتحوَّل الكاتب والصحفي - مهما كان بارعًا في صناعة الكتابة - إلى مُفتٍ "مفتن"، يحل ويحرِّم من عند نفسه، وقد ابتليت الأمة اليوم بهذه الرزية، وبعض الكتاب في زماننا يكتب في كل علم، ويغوص في كل فن؛ بل يسوِّغ لنفسه الاجتهاد في النوازل والمعضلات التي يتهيب منها الجهابذة الخبراء.
وإن من أهمِّ ما يجب أن يتحلى به الصحفي وكل ذي قلم: أن يكون منصفًا ينزِّه قلمه ولسانه عن الجور والهوى والتدليس والتلبيس، وتحريف الكلم عن مواضعه، يزيد وينقص ويخفي ويظهر جريًا على سنة بني إسرائيل: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91].
وليحذر الصحفي خداع الشيطان وتغريره به؛ إذ قد يستدرجه بدعوى الضرورة الصحفية إلى ارتكاب الموبقات، واستحلال الحرمات، من التجسس، وتتبع العورات، وتصيُّد الزلَّات؛ فقد قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا...} [الحجرات: 12]، وهذا النهي للصحفي وغير الصحفي، ثم أين الصحفي من أدب الستر؟! أم أنَّه صحفيٌّ غير مخاطَب بهذا، ولا همَّ له إلا قنص الأخبار، وهتك الأستار، وتحقيق سبقٍ صحفي - كما يقولون - يكسبه الشهرة والمال؟! وهذا يُذَكِّر بأمرٍ آخر ذي خطرٍ، حذَّر المولى - سبحانه – منه، ألا وهو إشاعة الفاحشة وإعلان المنكر، ومنها نشر أخبار ما يسمى بالفضائح الجنسية والجرائم الأخلاقية؛ إلا على سبيل الاعتبار، بعيدًا عن نشر الصور وشهر الأسماء ونحوه.
ولنقتصر على ما سبق، فهذا القدر كافٍ في التنبيه على بعض آداب الحرية الصحفية وضوابطها الشَّرعية.
لكن السؤال الذي يفرضُ نفسه في سياق الحديث عن مفهوم الحرية الصَّحفية:
هل الحرية الصحفية تبيح للصحفي أو الكاتب تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وتحسين القبيح، وتقبيح الحسن، وأن يُشرع للنَّاس ما لم يأذن به الله سلطانًا، ويَمسخ بذلك الفطرة التي لا تبديلَ لها، أو أنَّ الحرية الصحفية تبيحُ لكل ذي قلم أو لسان السبَّ والشتم، وتجريح العدول، وقذف الغافلات، والعدوان على الأعراض والحرمات، والتهكم بالأشخاص والهيئات، كتابة أو رسمًا أو بغيره من أشكال التعبير المختلفة؟!
نعم يا قُرَّائي الأفاضل، باسم هذه الحرية وتحت مظلتها، تُشنُّ هذه الغارة الشعواء من قبل كثيرٍ من دعاة ورموز الليبرالية والعلمانيَّة والتغريب؛ يتذرعون بها لهدم الثَّوابت، والتشكيك بالمسلمات، وزعزعة ما عُلِم من الدين بالضَّرورة، ولتفريغ الإسلام من محتواه؛ ليصير (هيولى)[4]، لا شكل له، ولا لون، ولا طعم، ولا سمات، ولا خصائص، ولا معالم، ولا حدود؛ ليتلاءم - حسب فلسفتهم السقيمة وأهوائهم الزَّائغة - مع كل الأذواق والميول والشَّهوات والأمراض النفسية والعقلية، وليتطور كما تتطور الأزياء والعادات، وليخدم كل طاغٍ وباغٍ.
تقرير حرية الرأي والتفكير والتعبير:
في البدء نقول لذوي النُّهى:
إنَّ ديننا لا يجد حرجًا من تقرير حرية الرأي والتفكير والتعبير؛ لأنَّه الدين الحق، وحرية التفكير تخدمه وتُؤيده، ولا تعارضه ولا تناقضه؛ لكن الباطل هو الذي يرعبه هذا النَّوع من الحرية؛ لأنَّها تكشف زيفه وفساده، ولذلك نجده يعمل على خنقها، أو أنه يأذن بحرية شكلية، لذرِّ الرماد في العيون، وبغرض الدعاية ليس غير، هي بالفوضى أشبه وإليها أقرب، يختلط فيها الحابل بالنَّابل، وتكمم فيها أفواه أصحاب الفضيلة، وترسل ألسنة أصحاب الرذيلة وأقلامهم بلا رقيبٍٍ ولا حسيبٍٍ.
أمَّا الإسلام، فتجده يحضُّ على التفكر والتدبر وإعمال العقل في خلق السموات والأرض، وما فيهما من آياتٍ وأسرارٍ، وما أكثرَ الآياتِ القُرآنيةَ الداعية إلى ذلك، وهذه من أعظم تجليات حرية العقل والفكر.
وكذلك يدعونا ديننا إلى النظر في التاريخ وسننه وفقه العواقب والمآلات؛ نحو قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} [آل عمران: 137].
ويحض أيضًا على تدبر القرآن وأسراره، في مثل قوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وغيرها كثير لا حَصْرَ له، ويطول سرده، فهل دعانا ربنا إلى التفكير ثم منعنا من التعبير؟ وما جدوى التفكر والتدبر إذا لم ينتفع المتدبر بثمراته التي يكشف عنها التعبير والنشر؟
لا تعارض بين العقل والنقل:
ومما لا يخفى أمره على أحدٍ أنَّ أوروبا - قبلة هؤلاء المتفرْنجين - التي عانت التخلُّف والانحطاط المادي والمعنوي إبَّان القرون الوسطى - هي التي كمَّمت فيها السلطة الكنسية الدينية الأفواه، ومنعت الرأي، واضطهدت العلماء، وسامَتْهم سوء العذاب، وحملت الناس بالإكراه على تبني آرائها ونظريَّاتها المخالفة لحقائق الكون والحياة والفطرة، ورفضت كل ما يعارضها.
بينما الإسلام - على خلافها - يُوافق العقل النقل في قضية الاجتهاد، دون أنْ يقعَ بينهما تناقض أو اختلاف، وَفْقَ قاعدة "مطابقة صحيح المنقول لصريح المعقول"، التي أفاض فيها وأجاد شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" وغيره، وأثبت أنه "ليس في صريح المعقول ما يناقض صحيح المنقول، وإنَّما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل، وليس منه"[5]، وهذه العبارات - لله درُّ قائلها - خلاصة القول في هذه المعضلة، ولا يتسع المقام للتفصيل.
الإسلام يمقت التبعية العمياء:
كما أنَّ الإسلام - والكلام في سياق تقرير حرية التعبير وتأصيلها - يمقت التقليد الأعمى والتبعية، ويحب الاستقلال وقُوَّة الشخصية؛ لأن المستقلَّ برأيه يُعمل عقله ولا يهمله، ويُنعِمُ النظر في كل ما يواجهه، ويشغِّل مواهبه، ويستثمرها، ويجِدُّ في تهيئة الفرص واقتناصها، ليبدع ويخترع، ويعطي بلا حدود؛ ولذلك فإنَّ ديننا يكره الإمَّعة الذي يعطل عقله ومواهبه، ويعيش مقلِّدًا غيره مستوردًا لبضاعته ومستهلكًا لها "بعُجَرِها وبُجَرِها، حلوها ومرِّها، ما يحمد منها وما يعاب"، كما هو شأن كثيرٍ من مقلِّدة الغرب والمفتونين به؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا؛ وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلاَ تَظْلِمُوا))[6].
التأصيل الشَّرعي للحرية الصحفية، وارتباطها بفريضة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر:
الحرية إحدى مُقومات الشخصية السويَّة، وأساس أي مُجتمع إنساني كريم، وشرطٌ ضروري لكل تطوير أو إصلاح، هذا ومن أهم أشكال الحرية في الحياة المعاصرة: الحرية الصحفية والإعلامية، التي يسميها بعضُهم بالسلطة الرَّابعة، وهي كذلك حقًّا إذا أُحسِن استخدامها وتوجيهها، فالصَّحافة الجادَّة سلطة أدبية معنوية راقية، مهيبة الجانب جليلة القدر، تقوم بالرقابة على أداء الدولة والمجتمع عامَّة، والنقد وتقويم الخلل، والإسهام في إصلاح الحياة السياسية والاجتماعيَّة والاقتصادية، وديننا لا ينكر الحرية الصَّحفية بهذا المعنى، وفي حدود هذا القدر؛ بل يعتبرها وسيلة فعَّالة لتغيير المنكر، وتندرج تحت المرتبة الثانية منه، وهي التغيير باللسان، وتغيير المنكر - كما هو معلوم - ليس عملاً مباحًا أو مستحبًّا فحسب؛ بل هو فريضة اجتماعيَّة ومن واجبات الأمة، وهو علامة عافيتها وازدهارها، بينما تعطيل هذا الواجب وإهماله والتقاعس عنه يعتبر من أمارات تأخُّر الأمة وانحطاطها، وهو مؤذن بهلاكها واستبدالها، عياذًا بالله؛ كما قال رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِى تَهَابُ الْظَالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ))[7].
حرية مقيدة، نعم، لكنَّها حرية حقيقية بلا عوائق ولا عراقيل:
ويذلل الإسلام العوائقَ التي تعرقل حرية النَّقد والتعبير؛ ولذلك تجده يحضُّ على قول الحق، وألاَّ يَمنع المرءَ منه خجلٌ ولا وجلٌ، وألاَّ يدعه؛ خشيةَ العامة أو مهابةَ السلطان؛ كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ))[8]، وعن أبي هريرة قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم – دَيْنٌ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: ((دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً))[9]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً))، يعتبر تأسيسًا لحرية الرأي والتعبير، وما أحسنه من شعارٍٍٍ لو ترفعه المؤسسات الصحفية والإعلامية، وتقيم عليه مناهجها وبرامجها!
الجهر بكلمة الحق في وجه الجبابرة والحكام الظلمة:
وتعلو منزلة الجهر بكلمة الحق إذا قيلت في سياق مُواجهة الاستبداد السياسي الذي يكمم الأفواه، ويكتم الحق، ويضلل الناس، ولا يفتأ يقول لهم مقالة فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، وهذا اللون من الجهاد السياسي هو أفضل الجهاد؛ كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلاً مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ، أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ))[10]، وما أجلَّ تلك الصحافة التي تترسم خُطَى مؤمن آل فرعون، الذي صدع بالحق في وجه الظلم والطغيان، متحليًا بالشجاعة الأدبية والحكمة السياسية!
الشورى والحرية صنوان:
ومن شرائع الإسلام ومبادئه العامة التي تصَبُّ في هذا الغرض: مبدأ "الشورى"، والتي وردت في آيتين في القرآن الكريم، تُلزم الأولى الحاكم بالمشاورة، فتقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وتلزم الثانية الأُمَّة بالشورى، فتقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
والشورى التزام شرعي يدخل في باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ويؤسس أيضًا لحرية الرأي والتعبير؛ لما بينهما من تلازم وارتباط، فلا معنى للشُّورى إذا أُلغيت الحرية، وسُكِّرت الأفواه، ومُنِِِع الرأي، والشريعة طافحة بما يؤصِّل لهذا اللون من الحرية، وسنذكر أمثلة ذلك، إن شاء الله تعالى.
حدود حرية الرأي والتعبير والنشر:لا حرية مطلقة، ومن يزعم غير ذلك فقد كذب، وإن وجدت فهي فوضى مدمرة، ولأجل ذا لفَت علماءُ الإسلام الانتباهَ إلى صفاتٍ وضوابطَ، تقتضيها ضرورة حماية الفرد والمجتمع عامَّة وتحقيق الأمن الفكري خاصة، لا يسَع الصحفي إهمالُها، ولا ينبغي أن يقصِّر فيها كاتبٌ أو ذو قلم، ومن أهمِّ هذه الضوابط:
- التثبُّت من الأخبار، وألاَّ يبثَّ الصحفي كلَّ ما يسمع، وفي الحديث الصحيح: ((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ))[11]، وكما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، ومن يطَّلع على سبب نزول الآيات يُدرك مدى خطورة تلفيق الأخبار الكاذبة، فلا ينبغي ولا يليق بالصحافة أن تكونَ مطية لأصحاب الأغراض والغايات الذين يستغلونها؛ لترويج الإشاعات، ونشر الدعايات، وتتبُّع العورات، وتصيُّد الزلات، خاصَّة إذا كانت تتعلَّق بأهل الخير والصَّلاح، فهؤلاء الأصل فيهم البراءة من كل ما يشينهم، فإن أخطأ فهي زلة، وأهل النبل والمروءة وكرام الناس يسترون الزَّلات، ويقيلون العثرات، ويلتمسون المعاذير، ويحسنون الظن، وكما جاء في التوجيه القرآني عقيب حادثة الإفك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].
أما الفسَّاق المجاهرون بالظلم والإفك، فلا حرمة لهم ولا كرامة، وليس لهم عرض محترم، ولا يُظنُّ بهم إلا السوء، وهؤلاء هم الذين يجب على الصحافة رصد مواقعهم ومواقفهم، وتتبع خطواتهم، وفضح مخططاتهم، وإحصاء حركاتهم وسكناتهم وخطراتهم، وعدُّ أنفاسهم إن استطاعت.
وليحذر الصحفي أيضًا من الوقوع والاسترسال في الغِيبة والنميمة، بذريعة حرية الرأي والتعبير، أو الحرية الصحفية، فهو من تلبيس إبليس على الصَّحفيين، وما أكثر أولئك الذين يُستدرَجون بمثل هذه الحيلة النفسية؛ قال تعالى: {... وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12]، فالوقوع في الغيبة والنميمة وفتح المجال لمثل هذه الجرائم تحت مظلة حرية الرأي والتعبير والنشر، إنَّما يوقع في التهلكة، ويعمل على تقطيع أواصر المودة بين الناس، وفي الصحيح: ((... وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ))[12]، قال النووي: "معناه إذا أراد أن يتكلمَ، فإن كان ما يتكلم به خيرًا محققًا يُثابُ عليه واجبًا أو مندوبًا، فليتكلم، أو إن لم يظهر له أنه خيرٌ يُثابُ عليه، فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنَّه حرام أو مكروه أو مباح أو مُستوِي الطرفين"[13].
ثُمَّتَ إنَّه من الضوابط الشرعية للحرية الصحفية: اجتناب الجدال والمراء؛ لأنه يسبب التخاصُم والتقاطع والتدابُر، ويوغر الصُّدور، ويزرع الكراهية، ويُثير الفتن، مثل كثير من الخصومات التي تندلع على صفحاتِ الجرائد والمجلات والمنتديات والقنوات والمواقع؛ بل تقع أحيانًا على منابر الجمعة، ويُؤدي هذا التخاصم إلى شرور عظيمة، تؤجج فيها العداوات، وتُغذَّى فيها أسباب الفرقة والشقاق، وتفضي إلى تقطيع أواصر المجتمع الواحد، وإنهاك قوته، وفتك أعدائه به، ولو نُظرت المعاني بعين الإنصاف لا بعين الشَّهوة والتعصب للمذاهب والأهواء، لَلاحت للباحث الحصيف الحقائق، واتَّضحت الطرائق.
هذا؛ وإنَّ مِما يدعو للأسف أنَّ بعضَ برامج البث الفضائي تقوم على التحريش بالمتحاورين، كالتحريش بالدِّيَكَة والكباش.
وليس من الحرية أيضًا الكذب والتلفيق والاتهام بغير دليل، والقذف بلا بينة، كلا، لا ينبغي أن تكونَ غايتنا التشهير والتجريح؛ بل الإصلاح والنُّصح لأئمة المسلمين وعامتهم، ومن الضَّوابط الضَّرورية: ألاَّ نتهم قبل أن نتبيَّن ونتثبت، وألا نتتبع الأقاويل والإشاعات، وألا نكذب، فكذبة الصَّحافة اليوم تملأ الآفاق، وتبلغ مشارقَ الأرض ومغاربها، وتدخل كل بيت، وكذلك ينبغي أن نكونَ موضوعيِّين واقعيين، ولا يغرّنا قول قائل: إنَّ الصحافة تقوم على الإثارة والتضخيم.
وليقتصر صاحب التخصُّص على تخصُّصه، فلا يتحوَّل الكاتب والصحفي - مهما كان بارعًا في صناعة الكتابة - إلى مُفتٍ "مفتن"، يحل ويحرِّم من عند نفسه، وقد ابتليت الأمة اليوم بهذه الرزية، وبعض الكتاب في زماننا يكتب في كل علم، ويغوص في كل فن؛ بل يسوِّغ لنفسه الاجتهاد في النوازل والمعضلات التي يتهيب منها الجهابذة الخبراء.
وإن من أهمِّ ما يجب أن يتحلى به الصحفي وكل ذي قلم: أن يكون منصفًا ينزِّه قلمه ولسانه عن الجور والهوى والتدليس والتلبيس، وتحريف الكلم عن مواضعه، يزيد وينقص ويخفي ويظهر جريًا على سنة بني إسرائيل: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91].
وليحذر الصحفي خداع الشيطان وتغريره به؛ إذ قد يستدرجه بدعوى الضرورة الصحفية إلى ارتكاب الموبقات، واستحلال الحرمات، من التجسس، وتتبع العورات، وتصيُّد الزلَّات؛ فقد قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا...} [الحجرات: 12]، وهذا النهي للصحفي وغير الصحفي، ثم أين الصحفي من أدب الستر؟! أم أنَّه صحفيٌّ غير مخاطَب بهذا، ولا همَّ له إلا قنص الأخبار، وهتك الأستار، وتحقيق سبقٍ صحفي - كما يقولون - يكسبه الشهرة والمال؟! وهذا يُذَكِّر بأمرٍ آخر ذي خطرٍ، حذَّر المولى - سبحانه – منه، ألا وهو إشاعة الفاحشة وإعلان المنكر، ومنها نشر أخبار ما يسمى بالفضائح الجنسية والجرائم الأخلاقية؛ إلا على سبيل الاعتبار، بعيدًا عن نشر الصور وشهر الأسماء ونحوه.
ولنقتصر على ما سبق، فهذا القدر كافٍ في التنبيه على بعض آداب الحرية الصحفية وضوابطها الشَّرعية.
صحافة فاعلة:
نريدها صحافة فاعلة تمارس سُلطتها في مراقبة الخلل ومُكافحة الفساد.
ولا ينبغي أن يُفهَم من تلك الضَّوابط المذكورة آنفًا التضييق على الصحافة، وإلغاء دورها ورسالتها؛ بل إنَّ من حق الصحافة أن تنتقد، ومن حقها أن تقول: هذا خطأ، وهذا يضر بمصلحة المجتمع والناس، هنا خلل، وها هنا خداع، وهنالك فساد... نعم من حقها ذلك، ولا يجوز مصادرتها حقَّها في النقد والنُّصح، ومُواجهة عصابات الفساد، وسرقة المال العام، والعبث بالثروات، ولا يحل تكميم الأفواه وقطع الألسنة، تحت ذريعة الخوف من إثارة الفتنة أو غيره من المسوِّغات الواهية؛ لحماية الفساد والإضرار بمصالح العباد، وليعيث المجرمون في الأرض فسادًا دون رقيب ولا حسيب، لكن كيف تقوله؟ وكيف تعبر عنه؟
نعم، الصَّحافة لها دورها ورسالتها، وهي لا تؤدي هذا الدور إلا في جوٍّ من الحرية والحماية والتقدير لدورها ووظيفتها، ولا ينبغي سلبها سلطتها ولا مصادرتها أدواتها ووسائلها، ولا تَحْييدها أو تحويلها إلى لسان للسلطان، لا عمل لها إلا تقريظه حيًَّا، وتأبينه ميتًا، والثناء عليه، وعدُّ مناقِبه التي لا تنتهي عند حدٍّ، وأحيانًا التسبيح بحمده، وربط حركة الكون والتاريخ والحياة بشخصه الخارق، الذي عقمت الأمهات عن أن يَلِدْنَ مثله.
كلا، لا نريد هذه الصحافة المقيتة المهينة؛ بل نريدها صحافة فاعلة تمارس سلطتها الأدبية والإعلامية والتربوية في مراقبة الخلل، ومكافحة الفساد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكن بشروطه وآدابه الآنفة الذكر، حفظ الله أقلامنا وألسنتنا من الكلم الخبيث، وهدانا إلى الطيب من القول وإلى صراط العزيز الحميد.
نريدها صحافة فاعلة تمارس سُلطتها في مراقبة الخلل ومُكافحة الفساد.
ولا ينبغي أن يُفهَم من تلك الضَّوابط المذكورة آنفًا التضييق على الصحافة، وإلغاء دورها ورسالتها؛ بل إنَّ من حق الصحافة أن تنتقد، ومن حقها أن تقول: هذا خطأ، وهذا يضر بمصلحة المجتمع والناس، هنا خلل، وها هنا خداع، وهنالك فساد... نعم من حقها ذلك، ولا يجوز مصادرتها حقَّها في النقد والنُّصح، ومُواجهة عصابات الفساد، وسرقة المال العام، والعبث بالثروات، ولا يحل تكميم الأفواه وقطع الألسنة، تحت ذريعة الخوف من إثارة الفتنة أو غيره من المسوِّغات الواهية؛ لحماية الفساد والإضرار بمصالح العباد، وليعيث المجرمون في الأرض فسادًا دون رقيب ولا حسيب، لكن كيف تقوله؟ وكيف تعبر عنه؟
نعم، الصَّحافة لها دورها ورسالتها، وهي لا تؤدي هذا الدور إلا في جوٍّ من الحرية والحماية والتقدير لدورها ووظيفتها، ولا ينبغي سلبها سلطتها ولا مصادرتها أدواتها ووسائلها، ولا تَحْييدها أو تحويلها إلى لسان للسلطان، لا عمل لها إلا تقريظه حيًَّا، وتأبينه ميتًا، والثناء عليه، وعدُّ مناقِبه التي لا تنتهي عند حدٍّ، وأحيانًا التسبيح بحمده، وربط حركة الكون والتاريخ والحياة بشخصه الخارق، الذي عقمت الأمهات عن أن يَلِدْنَ مثله.
كلا، لا نريد هذه الصحافة المقيتة المهينة؛ بل نريدها صحافة فاعلة تمارس سلطتها الأدبية والإعلامية والتربوية في مراقبة الخلل، ومكافحة الفساد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكن بشروطه وآدابه الآنفة الذكر، حفظ الله أقلامنا وألسنتنا من الكلم الخبيث، وهدانا إلى الطيب من القول وإلى صراط العزيز الحميد.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] مصطلح "القرون الوسطى" عند الغربيين يدُلُّ على التخلف الديني والحضاري، والانحطاط العلمي والثقافي، ويصفونها في أدبيَّاتهم وكتاباتهم بأنها "عصور الظلام"، وهي كذلك كما عاشها الأوروبيُّون من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر الميلادي؛ لكن هذه القرون في التاريخ الإسلامي كانت أزهى العصور وأعظمها، فانتبه.
[2] "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4-1405هـ، (1/80).
[3] "صحيح البخاري"، باب حفظ اللسان (6112).
[4] هيولى؛ أي: مادة خام مُجردة من الصورة، يشكِّلها مَن كانت بيده كيفما يشاء.
[5] "درء تعارض العقل والنقل"، أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار الكنوز الأدبية، الرياض، 1391، تحقيق: محمد رشاد سالم، (1/310).
[6] "سنن الترمذي"، ما جاء في الإحسان والعفو، (2007).
[7] "مسند الإمام أحمد"، (6521).
[8] "سنن الترمذي"، باب ما جاء أخبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة (2191)، و"سنن ابن ماجه"، باب: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، (4007).
[9] "متفق عليه"، صحيح البخاري، باب: الهبة المقبوضة وغير المقبوضة والمقسومة وغير المقسومة (2465)، و"صحيح مسلم"، باب من استلف شيئًا فقضى خيرًا منه، و((خيركم أحسنكم قضاء))، (1601).
[10] مسند الإمام أحمد، (11159).
[11] "صحيح مسلم"، باب: النهى عن الحديث بكل ما سمع (7).
[12] "صحيح البخاري"، باب حفظ اللسان (6110).
[13] "شرح النووي على مسلم"، النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ، (2/ 19).
[1] مصطلح "القرون الوسطى" عند الغربيين يدُلُّ على التخلف الديني والحضاري، والانحطاط العلمي والثقافي، ويصفونها في أدبيَّاتهم وكتاباتهم بأنها "عصور الظلام"، وهي كذلك كما عاشها الأوروبيُّون من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر الميلادي؛ لكن هذه القرون في التاريخ الإسلامي كانت أزهى العصور وأعظمها، فانتبه.
[2] "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4-1405هـ، (1/80).
[3] "صحيح البخاري"، باب حفظ اللسان (6112).
[4] هيولى؛ أي: مادة خام مُجردة من الصورة، يشكِّلها مَن كانت بيده كيفما يشاء.
[5] "درء تعارض العقل والنقل"، أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار الكنوز الأدبية، الرياض، 1391، تحقيق: محمد رشاد سالم، (1/310).
[6] "سنن الترمذي"، ما جاء في الإحسان والعفو، (2007).
[7] "مسند الإمام أحمد"، (6521).
[8] "سنن الترمذي"، باب ما جاء أخبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة (2191)، و"سنن ابن ماجه"، باب: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، (4007).
[9] "متفق عليه"، صحيح البخاري، باب: الهبة المقبوضة وغير المقبوضة والمقسومة وغير المقسومة (2465)، و"صحيح مسلم"، باب من استلف شيئًا فقضى خيرًا منه، و((خيركم أحسنكم قضاء))، (1601).
[10] مسند الإمام أحمد، (11159).
[11] "صحيح مسلم"، باب: النهى عن الحديث بكل ما سمع (7).
[12] "صحيح البخاري"، باب حفظ اللسان (6110).
[13] "شرح النووي على مسلم"، النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ، (2/ 19).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/6639/#ixzz2w1ZMEUw1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق