أيُّها الإخوة في الله:
هذه الأيام تعيش الأسواق الماليَّة الغربية والشرقيَّة حالةَ هلع وخوف، إثر حوادث الانهيار والإفلاس، التي تعرَّضَ لها عددٌ من الشَّركات والبنوك الأمريكيَّة، وهي درس عَمَلي لمنِ انْبهر بالحضارة الغربيَّة، وكان يطالب بأنْ تحذوَ شركاتُنا وبنوكُنا وأسواقُنا حذوَهم، وها هي الرَّأسماليَّة الغربيَّة تترنَّح في أسواقهم، مُعرِّضة اقتصادَهم لأكبر أزمة مالية نشهدها في هذا العصر، وربَّما تلطخ بأوحال هذه الأزمة كلُّ الشَّركات والبنوك المساهمة في تلك الأسواق، في طول العالم وعرضه.
وللاستفادة مِمَّا وقع وأَخْذِ العبرة والموعظة؛ لا بُدَّ من بيان المشكلة التي أدَّت إلى أكبر كسادٍ وانهيار يشهده الاقتصاد الأمريكي، ويُمكن تلخيص ذلك بأنْ قامت البنوك بإقراض العملاء، حتَّى الفرد الذي كان لا يستطيع الحصول على قرض لشراء مسكن؛ لمحدوديَّة دخْلِه الشَّهري - قامت بإقراضهم قروضًا؛ مِمَّا جَعَل النَّاس ينكَبُّون على هذا الاقتراض، وبمعدلاتِ فائدة رِبويَّة عالية، مع إغراءِ العميل بتخفيض أسعار الفائدة في الفترة الأولى.
مع استمرار أسعار البيوت في الارتفاع؛ قامت البنوك بإغراء العملاء المقترضين بإمكانية تحقيق أرباح مجزية؛ حيثُ إنَّ بيوتَهم أصبحت قيمتها أكثر من القيمة المشتراة؛ فَقَدَّمت لهم قروضًا أخرى مُقابل رهن جزء من البيت.
إلاَّ أنَّ العملاء لم يدركوا خُطورة العقد وما تضمَّنه من غرر كبير وغبن فاحش؛ لأنَّ أسعار الفائدة مُتغيِّرة وليست ثابتة؛ هذه الأسعار تكون مُنخفضة في البداية، ثُمَّ ترتفع مع الزَّمن، وهناك فِقرة تقول: إنَّ أسعار الفائدة سترتفع كلَّما رفع البنك المركزي أسعارَ الفائدة، وهناك فقرة أخرى تقول: إنَّه إذا تأخَّر عن دفع أي دفعة، فإنَّ أسعار الفائدة تتضاعف بنحوِ ثلاث مرات، والأهمُّ من ذلك فِقرة أخرى تقول: إنَّ المدفوعات الشَّهريَّة خلال السَّنوات الثلاث الأولى تَذهبُ كلها لسداد الفوائد، هذا يعني أنَّ المدفوعات لا تذهب إلى مِلكيَّة جزء من البيت، إلاَّ بعد مرور ثلاث سنوات، بعد أشهر رفع البنك المركزي أسعار الفائدة الرِبويَّة؛ فارتفعت الدفعات الشهرية، ثمَّ ارتفعت مرَّة أخرى بعد مرور عام كما نصَّ العقد؛ فعَجَزَ أكثر المقترضين عن السداد وتأخَّروا؛ فتراكمت عقوبات إضافية وفوائد على التأخير، ثم توقَّفوا عن الدفع؛ مِمَّا جعل البنك يستولي على العقار، ويطرُدُ المقترض؛ ليبيع البيت ويستوفي أقساطه المجحفة.
فتفاقمت المشكلة وانتشرت، وأدَّت في النِّهاية إلى انهيار أسواق العقار، أرباحُ البنك الذي قدَّم قرضًا للعملاء يجب أنْ تقتصر على صافي الفوائد التي يحققُها من هذا القرض، ولكنَّ الأمور لم تتوقف عند هذا الحد؛ قام البنك ببيع القرض على شكل سندات لمستثمرين، بعضُهم من دول الخليج، بل من جميعِ أنحاء العالم، حتَّى حكومات الدول استثمرت في هذه السندات، وأخذت عُمولة ورسوم خدمات منهم؛ هذا يعني أنَّ البنك كسب كُلَّ ما يُمكن أن يحصل عليه من عُمولات، وحوَّل المخاطرة إلى المستثمرين، المستثمرون الآن يَملكون سنداتٍ مدعومةً بعقارات، ويحصلون على عوائد مصدرها مدفوعات المقترضين البؤساء الشهريَّة؛ هذا يعني أنَّه لو أفلس المقترضون - وهذا ما حصل - فإنه يُمكِنُ أخذُ البيت وبيعه لدعم السندات، ولكنَّ هؤلاء المستثمرين رهنوا هذه السندات، على اعتبار أنَّها أصول، مُقابل ديون جديدة للاستثمار في شِراء مَزيد من السندات؛ نَعَم، استخدموا ديونًا للحصول على مزيد من الديون، المشكلة أنَّ البنوك تساهلت كثيرًا في الأمر لدرجة أنَّه يُمكن استدانة 30 ضِعفَ كَمِّيَّة الرهن.
ولما قام البنك بتحويل الدَّين إلى سندات، وباعها إلى البنك الاستثماري الذي احتفظ بجزء منها، وقام ببيع الباقي إلى صناديقِ تَحوُّط وصناديق سياديَّة في أنحاء العالم كافة؛ فكُلٌّ من العميل والبنك التِّجاري والبنك الاستثماري يعتقد أنَّه يملك البيت، والمستثمرون يعتقدون أنَّهم يملكون سنداتٍ لها قيمة؛ لأنَّ هناك بيتًا في مكان ما يدعَمُها.
القِصَّة لم تنتهِ بعدُ؛ بما أنَّ قيمة السندات السوقية وعوائدها تعتمدُ على تقييم شركات التَّقْييم لهذه السَّندات؛ بناءً على قُدرة المَدين على الوفاء، وبما أنَّه ليس كلُّ من اشترى البيوت له القُدرة نفسها على الوفاء؛ فإنَّه ليستْ كلُّ السندات سواسية، فالسَّندات التي تَمَّ التأكُّد من أن قُدرة الوفاء فيها ستكون فيها أكيدة ستكسبُ تقدير(أ)، وهناك سندات أخرى ستحصل على "ب"، وبعضُها سيصنف على أنَّه لا قيمةَ له بسبب العَجْز عن الوفاء؛ لتلافي هذه المشكلة قامت البُنوك بتعزيز مراكز السَّندات عن طريق اختراع طُرُق جديدة للتَّأمين؛ بحيث يقومُ حامل السند بدفع رسوم تأمين شهريَّة؛ كي تضمنَ له شَرِكة التَّأمين سدادَ قيمة السَّند إذا أفلس البنك أو صاحب البيت، الأمر الذي شجَّع المستثمرين في أنحاء العالم كافَّة على اقتناء مزيد من هذه السَّندات، التي سُمِّيت فيما بعد بالمسمومة.
وفي النهاية؛ لَمَّا توقف المقترضون عن سَدادِ الأقساط لارتفاع سعر الفائدة؛ فَقَدَتْ السندات قيمتَها، وأفلست البُنوك الاستثماريَّة وصناديقُ الاستثمار المختلفة، أمَّا الذين اشتروا تأمينًا على سَنَداتِهم، فإنَّهم حصلوا على قيمتِها كاملة؛ فنتج عن ذلك إفلاسُ شركة التَّأمين (إيه آي جي)، عَمَليَّاتُ الإفلاس أَجْبَرت البنوك على تخفيف المخاطر عن طريقِ التَّخفيض من عمليات الإقراض، الأمرُ الذي أثَّر في كثير من الشَّركات الصناعيَّة وغيرها، التي تحتاج إلى سيولة؛ لإتْمام عملياتِها اليوميَّة، وبدأت بَوَادرُ الكَسَاد الكبير بالظهور، الأمْرُ الذي أجْبَرَ الحكومة الأمريكيَّة على زيادة السيولة عن طريق ضَخِّ كَميات هائلة؛ لإنعاش الاقتصاد الذي بدأ يترنَّح تحت ضغط الدُّيون للاستثمار في الديون.
ولذا وقع الانهيار الكبير للاقتصاد الرأسمالي الليبرالي، وأفلسَ أكثر من 1000 بنك في أمريكا، من ضِمنها أكبرُ بَنْكَين ضِمْن أكبر أربعة بنوك أمريكيَّة؛ أحدها مصرف "ليمان برذرز"، والذي سجَّل بإفلاسه أكبرَ عمليَّة إفلاس في التاريخ الأمريكي، وعمرُه أكثر من 160 سنة، وهو أغنى بنك في العالم، وكذا بنوك أو شركات استثمار وشركات تأمين كبيرة جدًّا؛ حيثُ أُمِّمَت أكبر شركتي رهن عقاري؛ فسَيْطرت الحكومة الأمريكيَّة على 80% من شركة (إيه آي جي) مُقابل قرض بقيمة 85 مليار دولار؛ لدعم سيولة الشركة، وسُرِّح أكثر من 159000 موظف من أعمالهم، وطال هذا الانهيار أكثرَ دُول العالم على نِسَبٍ مُتفاوتة، فأفلست بنوك كبيرة في بريطانيا وألمانيا، وبلجيكا وهولندا وفرنسا، وغيرها.
أيُّها المسلمون:
وللاستفادة مِمَّا وقع وأَخْذِ العبرة والموعظة؛ لا بُدَّ من بيان المشكلة التي أدَّت إلى أكبر كسادٍ وانهيار يشهده الاقتصاد الأمريكي، ويُمكن تلخيص ذلك بأنْ قامت البنوك بإقراض العملاء، حتَّى الفرد الذي كان لا يستطيع الحصول على قرض لشراء مسكن؛ لمحدوديَّة دخْلِه الشَّهري - قامت بإقراضهم قروضًا؛ مِمَّا جَعَل النَّاس ينكَبُّون على هذا الاقتراض، وبمعدلاتِ فائدة رِبويَّة عالية، مع إغراءِ العميل بتخفيض أسعار الفائدة في الفترة الأولى.
مع استمرار أسعار البيوت في الارتفاع؛ قامت البنوك بإغراء العملاء المقترضين بإمكانية تحقيق أرباح مجزية؛ حيثُ إنَّ بيوتَهم أصبحت قيمتها أكثر من القيمة المشتراة؛ فَقَدَّمت لهم قروضًا أخرى مُقابل رهن جزء من البيت.
إلاَّ أنَّ العملاء لم يدركوا خُطورة العقد وما تضمَّنه من غرر كبير وغبن فاحش؛ لأنَّ أسعار الفائدة مُتغيِّرة وليست ثابتة؛ هذه الأسعار تكون مُنخفضة في البداية، ثُمَّ ترتفع مع الزَّمن، وهناك فِقرة تقول: إنَّ أسعار الفائدة سترتفع كلَّما رفع البنك المركزي أسعارَ الفائدة، وهناك فقرة أخرى تقول: إنَّه إذا تأخَّر عن دفع أي دفعة، فإنَّ أسعار الفائدة تتضاعف بنحوِ ثلاث مرات، والأهمُّ من ذلك فِقرة أخرى تقول: إنَّ المدفوعات الشَّهريَّة خلال السَّنوات الثلاث الأولى تَذهبُ كلها لسداد الفوائد، هذا يعني أنَّ المدفوعات لا تذهب إلى مِلكيَّة جزء من البيت، إلاَّ بعد مرور ثلاث سنوات، بعد أشهر رفع البنك المركزي أسعار الفائدة الرِبويَّة؛ فارتفعت الدفعات الشهرية، ثمَّ ارتفعت مرَّة أخرى بعد مرور عام كما نصَّ العقد؛ فعَجَزَ أكثر المقترضين عن السداد وتأخَّروا؛ فتراكمت عقوبات إضافية وفوائد على التأخير، ثم توقَّفوا عن الدفع؛ مِمَّا جعل البنك يستولي على العقار، ويطرُدُ المقترض؛ ليبيع البيت ويستوفي أقساطه المجحفة.
فتفاقمت المشكلة وانتشرت، وأدَّت في النِّهاية إلى انهيار أسواق العقار، أرباحُ البنك الذي قدَّم قرضًا للعملاء يجب أنْ تقتصر على صافي الفوائد التي يحققُها من هذا القرض، ولكنَّ الأمور لم تتوقف عند هذا الحد؛ قام البنك ببيع القرض على شكل سندات لمستثمرين، بعضُهم من دول الخليج، بل من جميعِ أنحاء العالم، حتَّى حكومات الدول استثمرت في هذه السندات، وأخذت عُمولة ورسوم خدمات منهم؛ هذا يعني أنَّ البنك كسب كُلَّ ما يُمكن أن يحصل عليه من عُمولات، وحوَّل المخاطرة إلى المستثمرين، المستثمرون الآن يَملكون سنداتٍ مدعومةً بعقارات، ويحصلون على عوائد مصدرها مدفوعات المقترضين البؤساء الشهريَّة؛ هذا يعني أنَّه لو أفلس المقترضون - وهذا ما حصل - فإنه يُمكِنُ أخذُ البيت وبيعه لدعم السندات، ولكنَّ هؤلاء المستثمرين رهنوا هذه السندات، على اعتبار أنَّها أصول، مُقابل ديون جديدة للاستثمار في شِراء مَزيد من السندات؛ نَعَم، استخدموا ديونًا للحصول على مزيد من الديون، المشكلة أنَّ البنوك تساهلت كثيرًا في الأمر لدرجة أنَّه يُمكن استدانة 30 ضِعفَ كَمِّيَّة الرهن.
ولما قام البنك بتحويل الدَّين إلى سندات، وباعها إلى البنك الاستثماري الذي احتفظ بجزء منها، وقام ببيع الباقي إلى صناديقِ تَحوُّط وصناديق سياديَّة في أنحاء العالم كافة؛ فكُلٌّ من العميل والبنك التِّجاري والبنك الاستثماري يعتقد أنَّه يملك البيت، والمستثمرون يعتقدون أنَّهم يملكون سنداتٍ لها قيمة؛ لأنَّ هناك بيتًا في مكان ما يدعَمُها.
القِصَّة لم تنتهِ بعدُ؛ بما أنَّ قيمة السندات السوقية وعوائدها تعتمدُ على تقييم شركات التَّقْييم لهذه السَّندات؛ بناءً على قُدرة المَدين على الوفاء، وبما أنَّه ليس كلُّ من اشترى البيوت له القُدرة نفسها على الوفاء؛ فإنَّه ليستْ كلُّ السندات سواسية، فالسَّندات التي تَمَّ التأكُّد من أن قُدرة الوفاء فيها ستكون فيها أكيدة ستكسبُ تقدير(أ)، وهناك سندات أخرى ستحصل على "ب"، وبعضُها سيصنف على أنَّه لا قيمةَ له بسبب العَجْز عن الوفاء؛ لتلافي هذه المشكلة قامت البُنوك بتعزيز مراكز السَّندات عن طريق اختراع طُرُق جديدة للتَّأمين؛ بحيث يقومُ حامل السند بدفع رسوم تأمين شهريَّة؛ كي تضمنَ له شَرِكة التَّأمين سدادَ قيمة السَّند إذا أفلس البنك أو صاحب البيت، الأمر الذي شجَّع المستثمرين في أنحاء العالم كافَّة على اقتناء مزيد من هذه السَّندات، التي سُمِّيت فيما بعد بالمسمومة.
وفي النهاية؛ لَمَّا توقف المقترضون عن سَدادِ الأقساط لارتفاع سعر الفائدة؛ فَقَدَتْ السندات قيمتَها، وأفلست البُنوك الاستثماريَّة وصناديقُ الاستثمار المختلفة، أمَّا الذين اشتروا تأمينًا على سَنَداتِهم، فإنَّهم حصلوا على قيمتِها كاملة؛ فنتج عن ذلك إفلاسُ شركة التَّأمين (إيه آي جي)، عَمَليَّاتُ الإفلاس أَجْبَرت البنوك على تخفيف المخاطر عن طريقِ التَّخفيض من عمليات الإقراض، الأمرُ الذي أثَّر في كثير من الشَّركات الصناعيَّة وغيرها، التي تحتاج إلى سيولة؛ لإتْمام عملياتِها اليوميَّة، وبدأت بَوَادرُ الكَسَاد الكبير بالظهور، الأمْرُ الذي أجْبَرَ الحكومة الأمريكيَّة على زيادة السيولة عن طريق ضَخِّ كَميات هائلة؛ لإنعاش الاقتصاد الذي بدأ يترنَّح تحت ضغط الدُّيون للاستثمار في الديون.
ولذا وقع الانهيار الكبير للاقتصاد الرأسمالي الليبرالي، وأفلسَ أكثر من 1000 بنك في أمريكا، من ضِمنها أكبرُ بَنْكَين ضِمْن أكبر أربعة بنوك أمريكيَّة؛ أحدها مصرف "ليمان برذرز"، والذي سجَّل بإفلاسه أكبرَ عمليَّة إفلاس في التاريخ الأمريكي، وعمرُه أكثر من 160 سنة، وهو أغنى بنك في العالم، وكذا بنوك أو شركات استثمار وشركات تأمين كبيرة جدًّا؛ حيثُ أُمِّمَت أكبر شركتي رهن عقاري؛ فسَيْطرت الحكومة الأمريكيَّة على 80% من شركة (إيه آي جي) مُقابل قرض بقيمة 85 مليار دولار؛ لدعم سيولة الشركة، وسُرِّح أكثر من 159000 موظف من أعمالهم، وطال هذا الانهيار أكثرَ دُول العالم على نِسَبٍ مُتفاوتة، فأفلست بنوك كبيرة في بريطانيا وألمانيا، وبلجيكا وهولندا وفرنسا، وغيرها.
أيُّها المسلمون:
لقد جرَّبَت بعضُ الدُّول النظام المالي الشيوعي، فثبت فَشَلُه، وسَقَطت الدول التي كانت تتَبَنَّى الفكر الشيوعي، وانقسمت بَعضُها إلى دويلات، واليوم ثَبَت فَشَل النظام الرأسمالي الذي تبنَّته مَجموعة من الدُّول الغربية، وها هو اليوم يترنَّح على سمع العالم وبصره، ويعرض اقتصاد أكبر دَولة لحافة انهيار، ولا زالت مُحاولاتهم قائمة لانتشاله من حافة الانهيار.
وأيُّ اقتصاد - يا عباد الله - يتعرَّض لمثل هذه الهزَّة العنيفة، ويكون سببًا في تشريد آلاف الموظَّفين من أعمالهم، وسببًا في إفلاس شَركات وبنوك كُبرى، إنَّ أيَّ اقتصاد من هذا النَّوع لَهُو اقتصاد فاشلٌ مهما استَمَرَّ لمدة من الزمن.
إنَّها ليست مُفاجِئةً لنا - نحن المسلمين - أنْ يترنَّح اقتصادٌ يقوم على مبدأ الحرِّية المطلقة، ويتغذَّى على الرِّبا، ويستندُ على السندات والديون، ويبيع ويشتري بالهامش والبيع على المكشوف، ويُقامِر حتَّى الثُّمالة، ولكنَّها مُفاجِئةٌ للعالم المتحضر الذي لا يؤمن إلاَّ بالقِيَم الرَّأسماليَّة، ولا يمتثل إلا لأفكارها، ولا يحترم إلاَّ أبجدياتها وأدبياتها، كما أنَّها مُفاجِئةٌ وإحراجٌ لكلِّ من نحا نحوهم، أو دار في فَلَكهم، أو سبَّح بحمدهم؛ ولهذا أخذ هؤلاء المسبِّحون بحمدهم يعتذرون عن الهزَّة، التي تعرض لها النظام الرَّأسمالي الذي تتزعمه أمريكا، بأنَّها ليست بسبب النِّظام الرأسمالي الذي يؤمن بالحرِّية المطلقة، وإنَّما بسبب بعض الممارسات الخاطئة بالسوق، في الوقت الذي تنشر فيه بعضُ جرائد الدول الغربية انتقادًا لاذعًا للرأسمالية.
أمَّا المسلمون:
وأيُّ اقتصاد - يا عباد الله - يتعرَّض لمثل هذه الهزَّة العنيفة، ويكون سببًا في تشريد آلاف الموظَّفين من أعمالهم، وسببًا في إفلاس شَركات وبنوك كُبرى، إنَّ أيَّ اقتصاد من هذا النَّوع لَهُو اقتصاد فاشلٌ مهما استَمَرَّ لمدة من الزمن.
إنَّها ليست مُفاجِئةً لنا - نحن المسلمين - أنْ يترنَّح اقتصادٌ يقوم على مبدأ الحرِّية المطلقة، ويتغذَّى على الرِّبا، ويستندُ على السندات والديون، ويبيع ويشتري بالهامش والبيع على المكشوف، ويُقامِر حتَّى الثُّمالة، ولكنَّها مُفاجِئةٌ للعالم المتحضر الذي لا يؤمن إلاَّ بالقِيَم الرَّأسماليَّة، ولا يمتثل إلا لأفكارها، ولا يحترم إلاَّ أبجدياتها وأدبياتها، كما أنَّها مُفاجِئةٌ وإحراجٌ لكلِّ من نحا نحوهم، أو دار في فَلَكهم، أو سبَّح بحمدهم؛ ولهذا أخذ هؤلاء المسبِّحون بحمدهم يعتذرون عن الهزَّة، التي تعرض لها النظام الرَّأسمالي الذي تتزعمه أمريكا، بأنَّها ليست بسبب النِّظام الرأسمالي الذي يؤمن بالحرِّية المطلقة، وإنَّما بسبب بعض الممارسات الخاطئة بالسوق، في الوقت الذي تنشر فيه بعضُ جرائد الدول الغربية انتقادًا لاذعًا للرأسمالية.
أمَّا المسلمون:
فَقَد تعلَّموا مُنذ أكثر من أربعةَ عشَرَ قرنًا أنَّه لا تُوجد في السُّوق حرية مطلقة، وأنَّ الرِّبا كبيرة من الكبائر، وأنه لا يَجرُّ إلاَّ الدَّمار وخراب الدِّيار ولهيب الويلات، ومَحق المال والبركات؛ {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، بل تعلم ذلك قبلهم اليهود والنصارى في كُتبهم المنَزَّلة من السماء؛ كما أشار إليه الخالق - سبحانه - في قوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 161]، كما حرَّم علماؤنا المعاصرون الكثير من صُور بيع الديون المستجدة، وبيع الهامش، والبيع على المكشوف والتأمين التجاري، وصدرت بذلك القرارات المجمعية والفتاوى الفقهيَّة مُنذ سنوات.
وحيثُ إنَّ أسواقهم لا تدين إلاَّ بالرأسماليَّة، ولا تؤمن إلاَّ بالنظم التي تقنن تحصيلَ المال؛ فقد تنكب هذا الخلق الضعيف طريق الحق، وخالفوا تعاليم الخالق؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وتفنَّنوا في تشريع قوانين أرضية تناهض قوانين السماء، فأصدروا قانونًا يبيح الربا، ويقنِّن الحصول عليه، وأسَّسوا مبادئ رأسمالية تحترم رأس المال، ولا تحترم الآدمي ذاته؛ ولهذا جوَّزوا للشركات الزِّراعيَّة مثلاً أن يُتلفوا محاصيلهم، وأن يلقوها في المزابل، ويدفنوها تحت التراب؛ ليحافظوا على حركة العرض والطَّلَب ولو تضَرَّر الفقراء جوعًا، بل وضعوا تشريعات تنحني للغَنِيِّ على حساب المسكين وذي العيلة، وتسبِّحُ بحمد رجل الأعمال ولو وُضع الفقير بسببها تحت الأشغال الشاقة!!
ولأنَّ هذه المبادئ والمُثل الرَّأسمالية من وضع البشر، وليست من وضع خالق البشر، فقد تراجع دُعاتها وحُماتها اليوم عمَّا كان له صفة القداسة بالأمس؛ حيث رفعوا مُنذ سنوات عدَّةٍ شعارَ حرية السُّوق، وها هم اليوم يمرغون هذه الحرية بالطين؛ لإنقاذ أسواقهم المالية وشركاتهم الرأسمالية، التي تترنَّح تحت وقع الإفلاس، وها هو الكونجرس الأمريكي يُصوِّت على اقتراح الرَّئيس الأمريكي بضَخِّ 700 مليار دولار؛ لإنقاذ بعض شركاتهم من الإفلاس، وبهذا يصبح التدخل الحكومي للإنقاذ مسمارًا آخر في نَعش الرأسمالية، ناهيك عمَّا قنَّنوه بالأمس من أنظمة تسمحُ بالبيع على المكشوف، ثُمَّ أوقفوه اليوم حتَّى إشعار آخر، وذلك حين اكتشفوا أثَرَه السلبي والخطير على أسواقهم وشركاتهم، وهلمَّ جرًّا.
لو رجعنا إلى الوراء أربعةَ عَشَرَ قرنًا؛ لوجدنا أنَّ الإسلام قد قيَّد الحرِّية التي لا ترعى بالاً للفقير والمسكين، أو تلك التي تحترم الفرد على حساب الكلِّ، فحرَّم الرِّبا، ومنع من الإقراض بالفائدة؛ لِمَا يؤدِّيان إليه من أثر سلبي وخطير على الفقراء، وعلى الاقتصاد العام ككل، كما حرَّم العقود المشتملة على الغَرَر أو القِمار، أو ما فيه جهالة، وأباح البيع المعلوم في المباحات، وكذا ما كان بمعنى البيع من الشركات وأنواع الإجارات؛ ليتحقَّق العدل والمُساواة بين أفراد المجتمع، في تدوير المال فيما بينهم وعدم احتكاره لدى طائفة بعيْنها دون البقيَّة؛ كما قال الحق - سبحانه -: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وسمح بالدَّين ولكن في حُدود الحاجة، وبضوابطَ شرعيَّة تمنع من وقوع أزَمَات، أو حُدُوث انهيارات تَضُرُّ بأصحاب الأموال، أو تلحق الضرر بالاقتصاد العام، وها نحن نرى اليَوْم أزمة الائتمان المفتوح في أمريكا، وما خلَّفته من ضحايا في طول العالم وعرضه، ثُمَّ توزيع هذه الأزمة بالمجَّان على البنوك والشركات والأفراد عَبْر السندات سيِّئة الصيت.
ولهذا نجد الشَّارع الحكيم قد وَضَع للدَّين ضوابط كثيرة، تكبحُ جماحه، وتسمح بالاستفادة منه بالقدر الذي لا يضرُّ بالفرد والمجتمع؛ ولهذا نجد نصوصًا شرعيَّة كثيرة تلمح إلى خَطَر الدَّيْن؛ كما في استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من المَغْرَم وهو الدَّين، ومن ضَلْع الدَّين، أي: ثِقَله؛ كما في حديث البخاري: كان النَّبِي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((اللهم إنِّي أعوذُ بك من الهَمِّ والحزن، والعَجز والكَسَل، والجبن والبخل، وضَلْع الدَّين وغلبة الرجال))؛ وفي صحيح البخاري أيضًا، عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه كان يدعو في الصلاة، ويقول: ((اللَّهم إنِّي أعوذُ بك من المأثم والمغرم))، فقال قائل: ما أكثرَ ما تستعيذُ يا رسول الله من المغرم، فقال: ((إنَّ الرَّجل إذا غَرَم حدَّث فكَذَب، ووَعَدَ فأخلف))؛ وفي سنن النَّسائي أنَّه كان يدعو بهؤلاء الكلمات: ((اللَّهم إنِّي أعوذُ بك من غَلَبة الدَّين، وغلبة العدوِّ، وشماتة الأعداء))؛ واليوم نرى كيف غلبت الدُّيون شركات وبنوكًا كُبرى، وأرغمتها على الإفلاس، ولفظُ الغلبة يلمِّح إلى إعجاز نبوي في دِقَّة العبارة، وما تحمله من بُعد، ممن أوتي جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم.
وكما ألْمَحَ هذا إلى خَطَر الدَّين، فقد ألمح إليه أيضًا عدمُ صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على من تُوفِّي وعليه دين، بل ألمح إلى خطره، أنَّه من الأشياء التي لا تغفر للعبد مهما بَلغ صلاحه؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم: ((يُغفر للشهيد كلُّ ذنب إلاَّ الدَّين))؛ ولِحِرْص الشَّارع على إطفاء أَثَر الدَّين، وحَسْم نتائجه المُرَّة على الفرد والمجتمع؛ فقد تكفَّل بتسديد دين المعسرين بيتُ مال المسلمين، وهو ما يسمَّى اليوم بـ "وزارة المالية"؛ حفظًا لأموال المسلمين من الضياع، ولتجنيب أفراد المجتمع ومؤسساته وشركاته خَطَرَ الإفلاس؛ كما جاء في الحديث المتَّفق عليه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤتَى بالرجل المُتوفَّى وعليه الدَّين، فيسأل: ((هل ترك لدينه من قضاء؟))؛ فإنْ حَدَث أنَّه تَرَكَ وفاءً صلَّى عليه، وإلا قال: ((صلُّوا على صاحبكم))؛ فلمَّا فتح الله عليه الفُتوح قال: ((أنا أوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم؛ فمن تُوفِّي عليه دين، فعَلَيَّ قضاؤه))؛ وفي رواية للبخاري: ((فمن مات ولم يترك وفاء)).
ولتثقيف المسلم بضرورة إعادة الدَّين إلى صاحبه؛ فَقَدْ أمر الشَّارع بتحسين النِّيَّة عند اقتراض المال للحاجة؛ كما جاء في صحيح البخاري: ((مَن أخَذَ أموال النَّاس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتْلَفه الله))؛ وهذا فيه تحذيرٌ من تبييت المقترض للنِّيَّة السيِّئة، وإضمار عدم السَّداد؛ وذلك محافظةً على الأموال، وصيانةً لها من الأيدي العابثة، وحرصًا على عدم تعريض المجتمع إلى هزَّات عنيفة بسبب الدُّيون المتراكمة؛ ولهذا حرَّمتِ الشَّريعة الإسلاميَّة على المُوسر المُماطلة في السَّداد؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَطْلُ الغَنِي ظُلم، يحل عرضه وعقوبته))، ولم يقِفْ الإسلامُ عند دعوة أفراده إلى السَّداد، بل حثَّهم - أولاً - على تخصيص جُزء لقضاء الدَّين؛ كما جاء في صحيح البخاري ومسلم، عنه - صلَّى الله عليه وسلم -: ((لو كان لي مثلُ أُحُد ذهبًا، ما يسرُّنِي أنْ لا يمر عليَّ ثلاث وعندي منه شيْء، إلاَّ شيءٌ أرصده لِدَيْن))؛ ثُمَّ حثَّهم - ثانيًا - على حُسنِ القضاء؛ كما في صحيح مسلم: ((إنَّ خيارَ النَّاس أحسنهم قضاء))؛ وذلك لِيغرسَ في نُفُوس أبنائه أهمِّية قضاء الدَّين، وضرورة مكافأة المحسن بأحسنَ منه؛ جزاءً وفاقًا.
وكما أجاز الإسلام الدَّين بضوابطَ شرعيَّة - ومنها أن لا يكون الثَّمن والمثمن مؤجَّلاً - فقد أجاز القرض الحسن؛ ليشيعَ في أبنائه رُوحَ المحبة والتَّكافُل؛ ولذا حرَّم القرض بالفائدة؛ لأنَّه ابتزازٌ للمحتاج الذي ألجأته الضرورة، أو الحاجة لاقتراض المال، وبما أنَّ النِّظام الرأسمالي يسمحُ بنظام القرض بالفائدة؛ لذا فقد أضرَّ به ضررًا بالغًا في أسواقه الماليَّة؛ حيثُ تسبَّبت هذه القروض الرِّبَويَّة إلى جانب الدُّيون مُنخفضة الكفاءة في أعنفِ زلزال عَرَفْته ساحة الشَّركات والبنوك الأمريكيَّة.
لقد نظَّم الإسلامُ الحياة الاقتصادية بقانونٍ من الخالق - جلَّ وعلا - وذلك لينعمَ الخلْق بحياةٍ اقتصاديَّة آمنة، تحترم الغَنِيَّ والفقير، وتُراعي المصلحة العامَّة والخاصَّة، وتحفظُ للنَّاس حقوقهم؛ ولهذا أجازت البيع، وحرَّمَتِ الرِّبا والغرر والتغرير والقِمار، وأذَنَت في التجارة، ومَنَعت الاحتكار، وبَيْع البائع ما لا يَملك، أو ما ليس في حَوْزته، ومن ربح ما لا يضمن؛ ليقتسم الجميعُ الرِّبح والخسارة، ولو أخذت النُّظم الحديثة بهذا القانون الإلهي العادل، لم تَحْتَجْ إلى تجربة شُيوعيَّة ولا رأسمالية، يثْبُت فشلُها مع مرور الأيام، وتتعَرَّض الأسواق بسببها للانهيار، والشركات للإفلاس والتقبيل، ولكن كما قيل: ليس بعد الكفر ذنب.
ولكنَّ الذَّنبَ علينا نحن المسلمين، إنْ سِرْنا في رِكابِهم، وتركنا تعاليمَ ديننا الإسلامي التي جاءتْنا من لَدُن الرب الحكيم العليم - جل في علاه - أقول قولي هذا.
وحيثُ إنَّ أسواقهم لا تدين إلاَّ بالرأسماليَّة، ولا تؤمن إلاَّ بالنظم التي تقنن تحصيلَ المال؛ فقد تنكب هذا الخلق الضعيف طريق الحق، وخالفوا تعاليم الخالق؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وتفنَّنوا في تشريع قوانين أرضية تناهض قوانين السماء، فأصدروا قانونًا يبيح الربا، ويقنِّن الحصول عليه، وأسَّسوا مبادئ رأسمالية تحترم رأس المال، ولا تحترم الآدمي ذاته؛ ولهذا جوَّزوا للشركات الزِّراعيَّة مثلاً أن يُتلفوا محاصيلهم، وأن يلقوها في المزابل، ويدفنوها تحت التراب؛ ليحافظوا على حركة العرض والطَّلَب ولو تضَرَّر الفقراء جوعًا، بل وضعوا تشريعات تنحني للغَنِيِّ على حساب المسكين وذي العيلة، وتسبِّحُ بحمد رجل الأعمال ولو وُضع الفقير بسببها تحت الأشغال الشاقة!!
ولأنَّ هذه المبادئ والمُثل الرَّأسمالية من وضع البشر، وليست من وضع خالق البشر، فقد تراجع دُعاتها وحُماتها اليوم عمَّا كان له صفة القداسة بالأمس؛ حيث رفعوا مُنذ سنوات عدَّةٍ شعارَ حرية السُّوق، وها هم اليوم يمرغون هذه الحرية بالطين؛ لإنقاذ أسواقهم المالية وشركاتهم الرأسمالية، التي تترنَّح تحت وقع الإفلاس، وها هو الكونجرس الأمريكي يُصوِّت على اقتراح الرَّئيس الأمريكي بضَخِّ 700 مليار دولار؛ لإنقاذ بعض شركاتهم من الإفلاس، وبهذا يصبح التدخل الحكومي للإنقاذ مسمارًا آخر في نَعش الرأسمالية، ناهيك عمَّا قنَّنوه بالأمس من أنظمة تسمحُ بالبيع على المكشوف، ثُمَّ أوقفوه اليوم حتَّى إشعار آخر، وذلك حين اكتشفوا أثَرَه السلبي والخطير على أسواقهم وشركاتهم، وهلمَّ جرًّا.
لو رجعنا إلى الوراء أربعةَ عَشَرَ قرنًا؛ لوجدنا أنَّ الإسلام قد قيَّد الحرِّية التي لا ترعى بالاً للفقير والمسكين، أو تلك التي تحترم الفرد على حساب الكلِّ، فحرَّم الرِّبا، ومنع من الإقراض بالفائدة؛ لِمَا يؤدِّيان إليه من أثر سلبي وخطير على الفقراء، وعلى الاقتصاد العام ككل، كما حرَّم العقود المشتملة على الغَرَر أو القِمار، أو ما فيه جهالة، وأباح البيع المعلوم في المباحات، وكذا ما كان بمعنى البيع من الشركات وأنواع الإجارات؛ ليتحقَّق العدل والمُساواة بين أفراد المجتمع، في تدوير المال فيما بينهم وعدم احتكاره لدى طائفة بعيْنها دون البقيَّة؛ كما قال الحق - سبحانه -: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وسمح بالدَّين ولكن في حُدود الحاجة، وبضوابطَ شرعيَّة تمنع من وقوع أزَمَات، أو حُدُوث انهيارات تَضُرُّ بأصحاب الأموال، أو تلحق الضرر بالاقتصاد العام، وها نحن نرى اليَوْم أزمة الائتمان المفتوح في أمريكا، وما خلَّفته من ضحايا في طول العالم وعرضه، ثُمَّ توزيع هذه الأزمة بالمجَّان على البنوك والشركات والأفراد عَبْر السندات سيِّئة الصيت.
ولهذا نجد الشَّارع الحكيم قد وَضَع للدَّين ضوابط كثيرة، تكبحُ جماحه، وتسمح بالاستفادة منه بالقدر الذي لا يضرُّ بالفرد والمجتمع؛ ولهذا نجد نصوصًا شرعيَّة كثيرة تلمح إلى خَطَر الدَّيْن؛ كما في استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من المَغْرَم وهو الدَّين، ومن ضَلْع الدَّين، أي: ثِقَله؛ كما في حديث البخاري: كان النَّبِي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((اللهم إنِّي أعوذُ بك من الهَمِّ والحزن، والعَجز والكَسَل، والجبن والبخل، وضَلْع الدَّين وغلبة الرجال))؛ وفي صحيح البخاري أيضًا، عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه كان يدعو في الصلاة، ويقول: ((اللَّهم إنِّي أعوذُ بك من المأثم والمغرم))، فقال قائل: ما أكثرَ ما تستعيذُ يا رسول الله من المغرم، فقال: ((إنَّ الرَّجل إذا غَرَم حدَّث فكَذَب، ووَعَدَ فأخلف))؛ وفي سنن النَّسائي أنَّه كان يدعو بهؤلاء الكلمات: ((اللَّهم إنِّي أعوذُ بك من غَلَبة الدَّين، وغلبة العدوِّ، وشماتة الأعداء))؛ واليوم نرى كيف غلبت الدُّيون شركات وبنوكًا كُبرى، وأرغمتها على الإفلاس، ولفظُ الغلبة يلمِّح إلى إعجاز نبوي في دِقَّة العبارة، وما تحمله من بُعد، ممن أوتي جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم.
وكما ألْمَحَ هذا إلى خَطَر الدَّين، فقد ألمح إليه أيضًا عدمُ صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على من تُوفِّي وعليه دين، بل ألمح إلى خطره، أنَّه من الأشياء التي لا تغفر للعبد مهما بَلغ صلاحه؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم: ((يُغفر للشهيد كلُّ ذنب إلاَّ الدَّين))؛ ولِحِرْص الشَّارع على إطفاء أَثَر الدَّين، وحَسْم نتائجه المُرَّة على الفرد والمجتمع؛ فقد تكفَّل بتسديد دين المعسرين بيتُ مال المسلمين، وهو ما يسمَّى اليوم بـ "وزارة المالية"؛ حفظًا لأموال المسلمين من الضياع، ولتجنيب أفراد المجتمع ومؤسساته وشركاته خَطَرَ الإفلاس؛ كما جاء في الحديث المتَّفق عليه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤتَى بالرجل المُتوفَّى وعليه الدَّين، فيسأل: ((هل ترك لدينه من قضاء؟))؛ فإنْ حَدَث أنَّه تَرَكَ وفاءً صلَّى عليه، وإلا قال: ((صلُّوا على صاحبكم))؛ فلمَّا فتح الله عليه الفُتوح قال: ((أنا أوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم؛ فمن تُوفِّي عليه دين، فعَلَيَّ قضاؤه))؛ وفي رواية للبخاري: ((فمن مات ولم يترك وفاء)).
ولتثقيف المسلم بضرورة إعادة الدَّين إلى صاحبه؛ فَقَدْ أمر الشَّارع بتحسين النِّيَّة عند اقتراض المال للحاجة؛ كما جاء في صحيح البخاري: ((مَن أخَذَ أموال النَّاس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتْلَفه الله))؛ وهذا فيه تحذيرٌ من تبييت المقترض للنِّيَّة السيِّئة، وإضمار عدم السَّداد؛ وذلك محافظةً على الأموال، وصيانةً لها من الأيدي العابثة، وحرصًا على عدم تعريض المجتمع إلى هزَّات عنيفة بسبب الدُّيون المتراكمة؛ ولهذا حرَّمتِ الشَّريعة الإسلاميَّة على المُوسر المُماطلة في السَّداد؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَطْلُ الغَنِي ظُلم، يحل عرضه وعقوبته))، ولم يقِفْ الإسلامُ عند دعوة أفراده إلى السَّداد، بل حثَّهم - أولاً - على تخصيص جُزء لقضاء الدَّين؛ كما جاء في صحيح البخاري ومسلم، عنه - صلَّى الله عليه وسلم -: ((لو كان لي مثلُ أُحُد ذهبًا، ما يسرُّنِي أنْ لا يمر عليَّ ثلاث وعندي منه شيْء، إلاَّ شيءٌ أرصده لِدَيْن))؛ ثُمَّ حثَّهم - ثانيًا - على حُسنِ القضاء؛ كما في صحيح مسلم: ((إنَّ خيارَ النَّاس أحسنهم قضاء))؛ وذلك لِيغرسَ في نُفُوس أبنائه أهمِّية قضاء الدَّين، وضرورة مكافأة المحسن بأحسنَ منه؛ جزاءً وفاقًا.
وكما أجاز الإسلام الدَّين بضوابطَ شرعيَّة - ومنها أن لا يكون الثَّمن والمثمن مؤجَّلاً - فقد أجاز القرض الحسن؛ ليشيعَ في أبنائه رُوحَ المحبة والتَّكافُل؛ ولذا حرَّم القرض بالفائدة؛ لأنَّه ابتزازٌ للمحتاج الذي ألجأته الضرورة، أو الحاجة لاقتراض المال، وبما أنَّ النِّظام الرأسمالي يسمحُ بنظام القرض بالفائدة؛ لذا فقد أضرَّ به ضررًا بالغًا في أسواقه الماليَّة؛ حيثُ تسبَّبت هذه القروض الرِّبَويَّة إلى جانب الدُّيون مُنخفضة الكفاءة في أعنفِ زلزال عَرَفْته ساحة الشَّركات والبنوك الأمريكيَّة.
لقد نظَّم الإسلامُ الحياة الاقتصادية بقانونٍ من الخالق - جلَّ وعلا - وذلك لينعمَ الخلْق بحياةٍ اقتصاديَّة آمنة، تحترم الغَنِيَّ والفقير، وتُراعي المصلحة العامَّة والخاصَّة، وتحفظُ للنَّاس حقوقهم؛ ولهذا أجازت البيع، وحرَّمَتِ الرِّبا والغرر والتغرير والقِمار، وأذَنَت في التجارة، ومَنَعت الاحتكار، وبَيْع البائع ما لا يَملك، أو ما ليس في حَوْزته، ومن ربح ما لا يضمن؛ ليقتسم الجميعُ الرِّبح والخسارة، ولو أخذت النُّظم الحديثة بهذا القانون الإلهي العادل، لم تَحْتَجْ إلى تجربة شُيوعيَّة ولا رأسمالية، يثْبُت فشلُها مع مرور الأيام، وتتعَرَّض الأسواق بسببها للانهيار، والشركات للإفلاس والتقبيل، ولكن كما قيل: ليس بعد الكفر ذنب.
ولكنَّ الذَّنبَ علينا نحن المسلمين، إنْ سِرْنا في رِكابِهم، وتركنا تعاليمَ ديننا الإسلامي التي جاءتْنا من لَدُن الرب الحكيم العليم - جل في علاه - أقول قولي هذا.
الخطبة الثانية
أمَّا بعد، فإن ما حصل فيه دروسٌ كبيرة ومواعظُ لأولي الألباب منها:
ظهورُ سُنَّة الله - تعالى - في المتعاملين بالرِّبا، وصَدَقَ الله العظيم حين قال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276]، إي والله، إنَّه لَحَقٌّ وأيُّ حق؟ حقٌّ حسي وحقٌّ معنوي؛ فقد تكون أموال المُرابي كثيرةً، لكنَّها مَعْدومةُ البَرَكة، وغيره يملك مالاً أقلَّ وراتبًا وظيفيًّا أقلَّ، لكنَّه يدَّخرُ من أموالِه؛ لزيادتِها عن حاجته بحصول البَركة فيها، أمَّا المرابون، فأموالهم مَمحوقة، وأسواقهم القائمة على الرِّبا مَمحوقة، واقتصاديَّاتُهم الرِّبويَّة مَمحوقة.
كيف لا تمحق وهم يحاربون الجبار - جل جلاله - أم يقل الخالق الرازق - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279]، وهل يستطيعُ أحدٌ أن يحارب الله؟ وماذا ستكون عاقبته في حَربه؟ عياذًا بالله؛ ما أعظم حِلْمَ الله! وما أشدَّ نقمتَه وعذابَه!
فهل يتوب إلى الله من يتعامل بالرِّبا أو يعمل في البنوك الرِّبويَّة؟ هل من توبة صادقة؟ هل تتوب الدُّول التي تقوم اقتصاديَّاتُها على الرِّبا والغَرَر والقِمار والحرِّية المطلقة الظالمة من ذلك، وتستفيدُ مِما حصل، وتتَّعظ قبل أن ينالَها ما نال أكبر اقتصادٍ في العالم؟ وسُننُ الله لا تُحابي أحدًا ولا تستثني آخرين؛ فهلْ من مدَّكر؟ وهل من مُتَّعظ؟
ومن الدُّروس مِمَّا حصل: سوءُ عاقبة الظُّلم، إي والله، الظُّلم ما أشدَّ عاقبتَه! وما أسوأ نهايتَه! وما أقبح خاتمته! فكم ظَلَمت هذه الدَّولة الكافرة المستكبرة! وكم طَغَت وبَغَت! وكم اغتَرَّت؛ وقالت: إنَّها أشدُّ النَّاس قوَّة! {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
لطالَما ناصرت أمريكا الدَّولة اليهوديَّة في ظُلمها وبَطشها على الفِلسطينيِّين، وأمَدَّتْهم بالسلاح الذي يقتلون به الأبرياء، ووقفت معهم في المحافل الدوليَّة مُناصرة ومُدافعة عنهم وعن ظُلمهم وبغيهم وعُدوانهم، ولا يَخْفَى ماذا فعلت وتَفْعلُ في العِراق وأفغانستان، وماذا حصل من فِتَنٍ كبيرة في هذين البلدين بسببها من تقتيل وتدمير، وتشريد وتيتيم وترميل، ونشر للفواحش والمُنكرات، ونَهْبٍ للخيرات، وسَرِقة للأموال والأرزاق، وتعطيلٍ لمصالح النَّاس، وتخويفهم وعدم أمنهم على أموالهم وأنفسهم وأهليهم وأعراضهم.
وصدق الله العظيم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]؛ نعم، هكذا تكون العاقبة، وهذه بعض عُقوبات الجبَّار - جل في علاه؛ {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167]، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197]؛ قال الشيخ السَّعدي - رحمه الله -: "هذه الآية المقصود منها التَّسلية عمَّا يحصل للَّذين كفروا من مَتاع الدُّنيا، وتنعُّمهم فيها، وتقلُّبهم في البلاد بأنواعِ التِّجارات والمكاسب واللَّذات، وأنواع العزِّ، والغَلَبة في بعض الأوقات؛ فإنَّ هذا كله متاعٌ قليل، ليس له ثُبوتٌ ولا بقاء، بل يتمتَّعون به قليلاً، ويُعذَّبون عليه طويلاً، هذه أعلى حالة تكون للكافر".
ومن الدروس مِمَّا وقع: بداياتُ سُقُوط النِّظام الرأسمالي الليبرالي، وظهور عَوْراته وسَوْآته للنَّاس وإفلاسه وفشله؛ لقد نَسَفَت هذه الأزْمة كثيرًا من مَبادئ الليبراليَّة الاقتصاديَّة، التي كانت تُبشِّر بها أمريكا، كما أنَّها أثْبَتَت أنَّ تركَ الأمرِ لقوانين السُّوق دون أيِّ ضَبْط ومراقبة يؤدُّي إلى كوارثَ تُصيبُ الاقتصاد الكُلِّي في مَقتل؛ نتيجةً لبعض الرَّغبات الجامِحَة لدى بعض الرَّأسماليِّين الجشعين في الثَّراء الفاحش، دُون النَّظر في عَواقب الأمور، وها هو العالمُ بأسره يقَعُ اليومَ ضحية لمقامرة البعض من تجار (وول ستريت)؛ ليعلم المَخْدوعون بحقيقة هذا النِّظام المُرَّة، وعدم صلاحيته لتسيير أمور النَّاس وأنَّ الحقَّ والعدل والخير والرحمة في المنهج الإسلاميِّ الفريد المنزل من لَدُن لطيفٍ خبير؛ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:65، 66]؛ فبالإيمان بالله وبما شرع، وتحقيقِ تقواه، واتِّباعِ شريعته - تَتَحصَّل الخيرات، وتعمُّ البركات وتتنزل الرحمات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 16، 17].
اللَّهم الْطُف بأحوال المسلمين في كلِّ مكان، اللَّهم أخرجهم من هذه المحنة سالمين غانمين تائبين مُنيبن، اللَّهم إنَّا نعوذ بك من الفِتَن ما ظهر منها وما بَطَن، اللَّهم ادفع عنَّا وعن المسلمين الغلاء والوباء والكساد والدَّمار، وارْحمنا برحمتك التي وسعت كلَّ شيء، يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهم أعزَّ الإسلام والمسلمين.
كيف لا تمحق وهم يحاربون الجبار - جل جلاله - أم يقل الخالق الرازق - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279]، وهل يستطيعُ أحدٌ أن يحارب الله؟ وماذا ستكون عاقبته في حَربه؟ عياذًا بالله؛ ما أعظم حِلْمَ الله! وما أشدَّ نقمتَه وعذابَه!
فهل يتوب إلى الله من يتعامل بالرِّبا أو يعمل في البنوك الرِّبويَّة؟ هل من توبة صادقة؟ هل تتوب الدُّول التي تقوم اقتصاديَّاتُها على الرِّبا والغَرَر والقِمار والحرِّية المطلقة الظالمة من ذلك، وتستفيدُ مِما حصل، وتتَّعظ قبل أن ينالَها ما نال أكبر اقتصادٍ في العالم؟ وسُننُ الله لا تُحابي أحدًا ولا تستثني آخرين؛ فهلْ من مدَّكر؟ وهل من مُتَّعظ؟
ومن الدُّروس مِمَّا حصل: سوءُ عاقبة الظُّلم، إي والله، الظُّلم ما أشدَّ عاقبتَه! وما أسوأ نهايتَه! وما أقبح خاتمته! فكم ظَلَمت هذه الدَّولة الكافرة المستكبرة! وكم طَغَت وبَغَت! وكم اغتَرَّت؛ وقالت: إنَّها أشدُّ النَّاس قوَّة! {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
لطالَما ناصرت أمريكا الدَّولة اليهوديَّة في ظُلمها وبَطشها على الفِلسطينيِّين، وأمَدَّتْهم بالسلاح الذي يقتلون به الأبرياء، ووقفت معهم في المحافل الدوليَّة مُناصرة ومُدافعة عنهم وعن ظُلمهم وبغيهم وعُدوانهم، ولا يَخْفَى ماذا فعلت وتَفْعلُ في العِراق وأفغانستان، وماذا حصل من فِتَنٍ كبيرة في هذين البلدين بسببها من تقتيل وتدمير، وتشريد وتيتيم وترميل، ونشر للفواحش والمُنكرات، ونَهْبٍ للخيرات، وسَرِقة للأموال والأرزاق، وتعطيلٍ لمصالح النَّاس، وتخويفهم وعدم أمنهم على أموالهم وأنفسهم وأهليهم وأعراضهم.
وصدق الله العظيم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]؛ نعم، هكذا تكون العاقبة، وهذه بعض عُقوبات الجبَّار - جل في علاه؛ {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167]، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197]؛ قال الشيخ السَّعدي - رحمه الله -: "هذه الآية المقصود منها التَّسلية عمَّا يحصل للَّذين كفروا من مَتاع الدُّنيا، وتنعُّمهم فيها، وتقلُّبهم في البلاد بأنواعِ التِّجارات والمكاسب واللَّذات، وأنواع العزِّ، والغَلَبة في بعض الأوقات؛ فإنَّ هذا كله متاعٌ قليل، ليس له ثُبوتٌ ولا بقاء، بل يتمتَّعون به قليلاً، ويُعذَّبون عليه طويلاً، هذه أعلى حالة تكون للكافر".
ومن الدروس مِمَّا وقع: بداياتُ سُقُوط النِّظام الرأسمالي الليبرالي، وظهور عَوْراته وسَوْآته للنَّاس وإفلاسه وفشله؛ لقد نَسَفَت هذه الأزْمة كثيرًا من مَبادئ الليبراليَّة الاقتصاديَّة، التي كانت تُبشِّر بها أمريكا، كما أنَّها أثْبَتَت أنَّ تركَ الأمرِ لقوانين السُّوق دون أيِّ ضَبْط ومراقبة يؤدُّي إلى كوارثَ تُصيبُ الاقتصاد الكُلِّي في مَقتل؛ نتيجةً لبعض الرَّغبات الجامِحَة لدى بعض الرَّأسماليِّين الجشعين في الثَّراء الفاحش، دُون النَّظر في عَواقب الأمور، وها هو العالمُ بأسره يقَعُ اليومَ ضحية لمقامرة البعض من تجار (وول ستريت)؛ ليعلم المَخْدوعون بحقيقة هذا النِّظام المُرَّة، وعدم صلاحيته لتسيير أمور النَّاس وأنَّ الحقَّ والعدل والخير والرحمة في المنهج الإسلاميِّ الفريد المنزل من لَدُن لطيفٍ خبير؛ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:65، 66]؛ فبالإيمان بالله وبما شرع، وتحقيقِ تقواه، واتِّباعِ شريعته - تَتَحصَّل الخيرات، وتعمُّ البركات وتتنزل الرحمات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 16، 17].
اللَّهم الْطُف بأحوال المسلمين في كلِّ مكان، اللَّهم أخرجهم من هذه المحنة سالمين غانمين تائبين مُنيبن، اللَّهم إنَّا نعوذ بك من الفِتَن ما ظهر منها وما بَطَن، اللَّهم ادفع عنَّا وعن المسلمين الغلاء والوباء والكساد والدَّمار، وارْحمنا برحمتك التي وسعت كلَّ شيء، يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهم أعزَّ الإسلام والمسلمين.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/3792/#ixzz2vwfuFpJP
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق