الحريَّة في مَدلُولها الفكريِّ النظريِّ نشتَرِك في عنوانها، ونختَلِف في حقيقتها المشروعة لكل حر.
نظرتنا لهذه الكلمة البعيدة عنَّا واقعيًّا والقريبة مِنَّا رمزيًّا، تتنوَّع مدلولاتها بتنوُّع دراستها، ليس الحرُّ هو مَن تُعطَى له الحريَّة المنسوبة لدلالتها الظاهِرة، مثلما هو حال الأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة، بل الحرُّ هو مَن له فكر وإبداع، ونقد واختِيار، وحياة وموت بوَجاهة الكلمة.
فالواقع الذي ما زلنا نبحَث فيه عن حريَّة الحرِّ، يجعلنا نُدرِك حقَّ الإدراك (عظمة الخالق) في تكريم الإنسان دون جميع المخلوقات؛ ليس لأنَّه صاحب عقل فقط، إنما لكونه صاحب عقل حرٍّ (تفكير حضاري، سلوك مدني راقٍ) لا صاحِب عقل مكبَّل بسلاسل التخلُّف والجهل يَكرَه كلَّ فكرٍ حرٍّ.
الحريَّة ليست أكلاً وشربًا ولعبًا ولهوًا دون دلالة، وليست وظيفة سياسيَّة بالمعايير الحاليَّة.
إنَّ الحرَّ يعرف أبعاد الحريَّة التي جعَلَها الله لعباده في نَبْضِ القلب دُون إغفال النشاط الجسمي المُصاحِب لعمليَّة النبض، إنها المجتمعات التي تُعنَى بتنمِيَة فكر الإنسان قبلَ غيره من مُستَلزَمات الحياة.
ولنا في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأسوة الحسَنة في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى واقِع مَعِيش أساسه حريَّة الفكر، وحق المشاركة والمناقشة الفعليَّة في تحقيق مشروع الدولة المبنيَّة على مَبادِئ الشورى والعدالة.
حريَّة الحر أكَّدها الإسلام، مُبرِزًا مدلولها الأصيل من خِلال عدم الإكراه على تبنِّي فكر مُعَيَّن، بل الاعتِراف بقدرات الإنسان الحرِّ كحقيقة كونيَّة تُعطِي حقَّ الممارَسة الفعليَّة النَّشِطة في سَعادة الإنسانيَّة، هي إستراتيجيَّة مكَّنت من تحقيق ضَوابِط القِيادة وانتِهاج أسلوب الفكر الحرِّ في طريقة الحياة.
والله لو بحثنا في دَساتِير العالَم لما وجدنا هذا الخِطاب الذي يَرمُز إلى انتِهاج الفكر الحضاري الإنساني في الدعوة إلى الانخِراط في مَشروع الأمَّة، بعيدًا عن كلِّ المرجعيَّات الفلسفيَّة التي لا تَقبَل النِّقاش والاجتِهاد، وتعتَبِر كلَّ جديدٍ بدعةً فكريَّة لا مجال لطرحها أمام أفكار وآراء السابِقين.
لقد تأسَّست جمعيَّات ومؤسَّسات محليَّة وإقليميَّة ودوليَّة لحمايَة النشاط الفكري الحر، غير أنها تتخبَّط في حقلٍ للألغام، كلَّما بحثَتْ عن وسيلة لنزع الألغام أُحِيطت بأخرى.
إنَّها السياسة الأُحاديَّة في نظر أصحاب الادِّعاء بنشر الحريَّة وحماية مدلولها الصحيح، الذين لا يملكون الاستِعداد الحقيقيَّ لاستِعمال كاسِحات الألغام، والسَّماح للفكر الإنساني بالإبداع والتعايُش في كنف الحريَّة.
نأسَف لِحالنا ولِحال كلِّ الإنسانيَّة التي تبحث عمَّا يُرِيح العالم من الصِّراعات، التي أساسُها عدم فهم حقيقة الإسلام الذي تَمَّ تصديرُه على طبق التخلُّف والانغِلاق الفكري، والتمسُّك بالجزئيَّات ومُعاداة الشعوب والأُمَم.
ولكنَّ الإشعاعات الفكريَّة الحرَّة هي في ديننا الذي يضمَن لجميع الإنسانيَّة حقَّها في الوجود، وحقَّها في الحياة، وحقَّها في التعبير دون خَوْفٍ ولا سُجُودٍ لفلسفة الآخَرين.
علينا أن نُجدِّد أفكارَنا بما يَتماشَى وحريَّةَ الفكر الإنساني، الباحِث والمتدبِّر والمَصُون بقاعدة: (كل إنسانٍ يملك إبداعات ولكن لا تتميَّز عن غيره دون حريَّة).
الباحِث في قدرات الإنسان الحر يكتشِف خَبايا وأسرار تكريم الله - سبحانه وتعالى - لهذا المخلوق، الذي حوَّله أصحاب الحَداثَة المعادية لكلِّ مَن يحمِل الفكر الإسلامي المُعاصِر إلى رمز للتخلُّف والجمود وعدم قابليَّة مَواقِفه وآرائِه، بل إلى إبعاده عن كلِّ ثقافة إنسانيَّة تَبرُز فيها حقيقة الفكر الحر.
الحريَّة كلمة مُتجذِّرة في أصل الإنسان، إنها سلبت خوفًا من صاحِب الفكر الإنساني الحرِّ الذي يُخاطِب العقول لا البُطُون، ويُخاطِب كلِّ مُكرَّم ومُعزَّز بعدم الانسِياق وراء مَن يَعتَبِرون أنفسَهم أحرارًا، وهم بعيدون كلَّ البعد عن مستوى الحياة البشريَّة التي تُؤمِن بحقِّ الحياة الحرَّة لكلِّ إنسان.
نسأل الله العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة، ونسأله التوفيق لأمَّتنا والنصر لدينِه.
والسلام عليكم ورحمة الله - تعالى - وبركاته.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/22033/#ixzz2w1Du1fc5
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق