الحرية أغلى من الهواء الذي نتنفَّسه، والماءِ الذي نشربه، والطفل الذي نلاعبُه ونداعِبه، والزوجة التي نحبُّها، والبيت الذي نسكنه. ما أشبهَها بجناحي الطائر، ومجاديف الصياد، ويراعة الكاتب!
إنما هي هبةُ الخالق للإنسان، ودلالة من دلالات تكريمه، وتقديره.
الحرية جناحُ الإبداعِ، وعجَلةُ التفوق، وجوهر الكرامة، وبلسَم السعادة، وواحة البَذل والعطاء.
الحرية سِفرٌ باسم؛ سجلُّه ورقُ الزهر، وسطورُه رحيق الورد، وحروفُه تغريداتُ البلابل، وهمَسات الجداول.
تنزعُ النفس إلى الحرية نزوعَ الطائر للفضاء الرحب، ونزوعَ العاشق لرؤيةِ من يحبُّ، ونزوع القمر للقاء الشمس.
فاقدُ الحرية وفاقد البصر سواء؛ حيث يحسُّ الأخير بالأشياء، ويتلمَّسها ولكنه لا يدرك روعتَها، ولا يستشعر جمالها...
فاقد الحرية طفلٌ ماتت أمه، وربيعٌ هربت منه زهوره، ومسافُر في عرض البحر ضاعَت بوصلته، وعصفور وجد نفسه فجأة في قفص سدَّ عليه المهارب.
إن من يسلب حريَّة إنسان كمَن يضع عصفورا طليقا في قفص، وكمن يمسك غزالا يتنقَّل بين الغدران والخمائل، ويحبسه في حظيرة ضيِّقة.
إن من يسلب حريةَ الآخرين، ويقيِّد أفكارهم، ويختارُ لهم ما يقرؤون، ويقرِّر بالنيابة عنهم ما يعتقدون، ويختار لهم ما يحبُّون وما يكرهون، ويُلزمهم على التصفيق والتطبيل والمجاملة هو فرعونُ عصره.
كيف تُسلَبُ الحرية، ومنزلتها من النفس بمنزلة النبض من القلب، ومنزلتها من الكون بمنزلة الشمس من السماء؟!!
الذين يعبِّرون عن الحرية حقَّ التعبير هم أولئك الذين سُلبوها، وحُرِموها رَدحا من الزمن، وهم أولئك الذين يستشعرونَ أهميتها في بَلورة إنسانيَّة الإنسان وتجسيدها.
الحرية أثمنُ من الألماس، وأغلى من الكنوز، وأشهى من المنِّ والسلوى، وأبهى من القمر، وأنضر من الربيع...
لأن الحريةَ تعني الإنسانيَّة....
لأن الحريةَ تعني كرامةَ البشر....
لأن الحريةَ نافذةُ العقل إلى عالم المعرفةِ، وبلسمُ النفس، وغذاءُ المشاعر والأحاسيس.
يُضحَّي فاقدوها من أجل استردادها من الظَّلَمة، ويغامرونَ بحياتهم من أجل الظفرِ بها كما يغامرُ صيادو البحر بحثا عن اللؤلؤ والمرجان.
كل ما ينشدُه هؤلاء الأحرار أن يكتبوا كلماتٍ حقيقيَّة، وأن يعبروا عن مشاعرهم الحقيقية، لا أن يسمُّوا الأسودَ أبيض، والأصفر أخضر، والباطل حقًّا، والظلم عدلا.
ورحم الله عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه عندما قال: "متى استعبدتُم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
وقيل: "الحرُّ في القفص لا ينسِل".
ما أروعَ الحريةَ التي جسَّدها أبو بكر رضي الله عنه عندما أعتقَ بلالا الذي يفتخر بانتمائه للإسلام، ويقول:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه
إن افتخروا بقيس أو تميم
|
نحنُ لا نريدُ الحرية العابثةَ، الحريةَ التي تُبيحُ اللَّذائذَ، والمنكرات، وتوفِّرُ أسبابَ الرذيلة، والإنفلات، ولكننا نريد حريةً يُنتجها الفكرُ المحبُّ، حرية تقومُ على وضع تحقيقِ الأهداف الساميةِ للأمة نصبَ عينيها، حريةً تقومُ على احترام آراء الجميع والاستماع إلى أفكارهم ومناقشتها، وإعطاء الفرصةِ للجميع، وتقديرِ إبداعاتهم ومواهبهم بصرف النظر عن العرق واللون والمذهب، حريةً تهدف إلى الارتقاء بالمجتمع نحو ذرا المجد والفخار، وتحقيق الألفة والمحبة بين جميع أفراده.
ليست الحرية أن نفعلَ ما نشتَهي في الطريقة التي تروقُنا وتناسبُنا من غير أن نأخُذَ بالاعتبار قوانينَ الذوق العام للمجتمع الذي نعيش فيه، وليست في أن نقولَ كل ما يخطرُ على بالنا حتى ولو كان حقا من غير تقدير للموقف وتأمُّل في مغازي الكلام وانعكاساته. قال الشاعر:
جراحات السِّنانِ لها التئام
ولا برءٌ لما جرحَ اللِّسانُ
|
تتجلى الحرية في أسمى معانيها وصورها عندما ينطلِق الناسُ من فهمٍ ثاقبٍ لخميلة الإنسانيَّة الغنَّاء التي تتمازجُ فوقها أناشيدُ الطيور، وتهفو إلى شَذاها نسائمُ البحور، وتتوحَّد فوقها ألوان الأعلام، ومشاعرُ الإنسانِ؛ خميلة توفِّق بين الانتماءات كما توفِّق بين العُملات، وتحترمُ الأبجديات والاتجاهات كما تحترم الثروات، وتنتصر للبؤساء كما تحابي الأثرياء.
ما أجمل أن يعملَ المربونَ على غرس مفاهيم الحرية الراشدة في نفوسِ أبنائهم بدلا من ثقافة الانفلات، والفوضى والعبثيَّة، ويعلِّموا أبناءَهم كيف يميزون بين الصراحة والوقاحة، وكيف يقفون عند إشارات المرور الضوئية، وعند مشاعر الآخرين الإنسانية.
ومن اللَّفتات الجميلة في القرآن الكريم ما جاء في سورة الغاشية: ﴿ لست عليهم بمسيطر ﴾ [ الغاشية:22].
وقوله تعالى: ﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ [ البقرة: 256].
ومن الأقوال التي أعجَبتني في هذا السياق ما ألفيتُه في موسوعة الحكم لروحي البعلبكي، ص: 221-222:
إبراهام لنكولن: "لا أحد يحبُّ قيودَه، ولو كانَت من ذهب".
أندريه موروا: "الحرية والمسؤولية توأمان، لو انفصَل أحدهما عن الآخر ماتا جميعا".
ميخائيل نعيمة: "الحرية أثمن ما في الوجود، لذلك كان ثمنها باهظا".
الحرية
فيكتور هوجو: "الحرية هي الحياة، ولكن لا حرية بلا فضيلة".
تفقد الحرية معانيها ومغازيها عندما تحملُها يد طائشةٌ، وعندَما ينادي بها لسانٌ منفلت، وعندما تخطُّ حروفَها أقلامٌ كئيبة، وعندما يمارسها الرُّعن والطائشون.
نريدُ حريةً خضراءَ زاهيةً نديَّةً، لا حريةً حمراءَ مضرَّجةً بالدماء، والألم والتَّشريد....
ولا شكَّ في أنَّ الأحرارَ الشرفاء سينتصرونَ في النهاية؛ لأنهم ينادونَ بحقٍّ مَنَحهم الله إياه، وأقرَّته جميعُ الشرائع والقوانين.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/38921/#ixzz2w1LgMqMf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق