"درء تعارض العقل مع النقل: دراسة المفاهيم من ناحية إبِسْتُمُولوجِيَّة"
النصُّ بمفهومه العامّ لا نريد به ما تأويله تنزيله، بل المراد الوحْي كله؛ أي: القرآن الكريم وما ثبت عن النَّبي، وطرح النزاع حول العلاقة بين النَّصّ أو الوحي أو النقل مع العقل، وبروز إشكالات خطيرة أمر قديم، لكن بعضها يتجدَّد مؤخَّرًا في غير لبوسه الأوَّل.
غير أنَّ ضبط محلّ النزاع ثم تداعياته فكريًّا يُرام ابتداء بضبط المفاهيم الخاضعة للدِّراسة، بتحليلها وتحديد المصْطلحات والحقل الدلالي؛ كيما تُسْطَر حمى الخلاف وحدود الاختلاف.
مفهوم القوَّة المدركة:
• ورد في محل العلم: بأنَّ النَّفس والقلب والفؤاد واللبّ والروح هي محل الإدراك.
• أمَّا الإدراك – أي: مطْلق الإدراك - فكان هو الإدراك والعلم والعقل، والفكْر والتَّمييز والتصوّر.
• وانتقال المعلوم إلى محل العلم: نشاط عقلي، عمليَّات فكرية، وظائف، أعمال قلبيَّة، أفعال قلبيَّة.
ولكيما تتَّضح الصورة لا بدَّ من تحديد المصْطلحات أكثر؛ وذاك لشدَّة التداخل المعجمي بينَها.
• العقل قوَّة متهيِّئة لقبول العلم، وللعلم المستفاد بتلك القوَّة.
• هُنالك معلوم يُتَّصَل به بالحواسِّ إن كان خارجيًّا، وبقوى إدراكيَّة إن كان داخليًّا؛ وهي قوى استرجاع ما كان محفوظًا ومخزنًا، ثم أفعال تَستنبط ممَّا هو مخزن وأخرى تعي وتستوعب، وهي تلي الإحساس مثل الشّعور والإدْراك والفهم، بعدها يكون التَّخزين، بعدها الفحْص والبحث للإنتاج، فتنشأ علومٌ زائدة عمَّا نُقل عبر الحواسّ من أخبار أو إحساس مباشر، بعدها تطبيق تلك العلوم وضبطها، وهذه خلاصة وصول العلم، وهي العقْل كما بيَّنَّا في مراتب العلم.
ما خلص من هذا البحث في تلك المفاهيم هو كالتَّالي:1- هنالك محلّ للعلم والمعرفة: هذا المحل له قابليَّة للإدراك واستيعاب العلوم والمعلومات، وهذه القابلية هي استعداده وتهيُّؤه لذلك، فسُمي المحل (ذهنًا)، وهذا المحل هو الوسيلة والأداة والآلة ومحل الفاعل، ولها متعلّق بالجارحة، وهي القلب بطبقاته من فؤادٍ ولبّ وصدر.
2- المحلّ فيه قوَّة: وهي المَلَكة والغريزة، وهي المتهيئة للفعل والعمل والنَّشاط والحركة، تصدر عنها صفات ذاتيَّة.
فعندنا (فاعل) و(مفعول)، والعلاقة بينها حال وقوعها تسمَّى (فعل)، وكيما يقع (الفعل) من (الفاعل) على (المفعول به) يلزم قوَّة، وهي كامنة في (الفاعل) المستعدّ للفعل؛ ولكن لا يوجد فعله بعد.
والقوَّة هي كوْن الشيء مستعدًّا لأن يوجد أو لا يوجد.
والنفس هي عقل باعتِبار القوَّة، وهي ذهن باعتبار القابليَّة الصَّادرة منها تلك القوَّة.
فهذه القوَّة هي الغريزة التي تصدر منها صفات ذاتيَّة، وهي الملَكة لاستِحْكامها؛ وإن لم تَسْتَحكم بعض القوى كانت عبارة عن "حالة"، وهذه القوَّة بها طاقة وقُدْرة على النَّشاط والحركة والعمل والفعل.
3- القوَّة تملك قدرة "الفعل"؛ فهي مهيئة للفعل والحركة والجولان والنشاط والعمل.
وفي تعاريف العقل أنَّه:
• قوَّة بها يعقل النفس عن شهواتها؛ أي: يمنعها.
• يعقل العلوم؛ أي: يَحبسها بالنفس.
• يميز بين القبح والحسَن.
فعندنا حول الإدراك: (الجارحة) الآلة وهي القلب بمعناه المادي، ثم المحل (اللطيفة الربَّانية المدْركة) وهو بالقلب، ثمَّ قابليَّة المحل (الذّهن) وهي استعداد النَّفس القادرة المدْركة، ثم الفعل (التعقُّل، التفكُّر) وهذه نشاطات العقل وعمليَّاته الإدراكيَّة ومراتب وصول العلم.
وحالة وصول العلم تسمَّى هيئة (عاقل - مفكر) وهي تحقّق العلم وبالنفس، فالفاعل هو النفس وبالذات (القلب)، والقابليَّة للفعل (الذهن)، والقوَّة على الفعل (العقل)، والفعل (التعقّل)، والمفعول به (المعقول)، والهيئة (العاقل)؛ أي: تحقّق العلم بالنفس.
فتجمع لنا مصطلحات هي: الآلة، المحل، القابليَّة، القوَّة، الفعل، الهيئة.
وهذه تمثل كيفية وصول العلم من الموضوع المدرَك إلى المحل المدرِك.
مفهوم المصدر المعرفي:
(مصدر المعرفة): هو الحاوي لحقيقة الأشياء أو ماهيَّتها أو مثالها؛ أي: هو الأشياء عينها، فمصدر المعرفة هو (الموضوع المدرَك)؛ فعندنا نفس مدركة، وعملية إدراكيَّة، وموضوع مدرَك.
النَّفس المدركة هي "محل العلم" القلب، والعلميَّة هي "العقل"، والإدراك حصول العلم، والموضوع المدرك هو العالم الخارجي؛ أو ما في الحافظة والذَّاكرة ممَّا نقل عن العالم الخارجي أصلاً، وتطوّر ونشأت عنْه معارف وصُوَر قد لا يكون لها وجود بالعالم الخارجي.
فيكون مصدر المعرفة مشهودًا، وهو الكون المخلوق، وغائبًا، وهو الخالق.
الأوَّل: يتلقَّى المعرفة منه بالحواسّ إلى العقل، والثَّاني عبر النبوَّة إلى الحواسّ ثمَّ العقل.
فكلا المصدرَين لا يُمكن تلقِّي المعرفة منهما إلاَّ بالحواسّ التي تمثِّل أدوات الاتِّصال للعقل بالعالم الخارجي عنه؛ أي: عن النفس المدركة.
فالعقل يتعقَّل من مصدر مشهود مكوَّن من ميدانين: الآفاق والأنفس، وجميع ما فيه من معلومات بديهيَّة ونظريَّة لا يخرج أصلُها عن هذا المصدر، عدا ما كان من عالم الغيْب الَّذي لا تصِلُه الحواسّ لكن يُمكن أن تحسّه في مجال آخَر.
فإشكاليَّة النَّصّ والعقل غير قائمة، بل تسقُط حال التَّحليل الدلالي للمفهومين؛ لأنَّها تعرض بين موضوع خاضع للإدْراك والقوَّة المدركة، وهذا لا يستقيم.
فمحلّ النزاع - إن كان - لا بدَّ أن يكون حول المصدَر المعرفي؛ أي: هل ما يتعقَّله العقل من الكون يُصادم ما يتعقَّله من الخطاب الإلهي (الوحي)؟
فالنَّص هو موضوع مدرَك؛ أي: خاضع للعمليَّات الإدراكية، والعقل هو القوَّة المدرِكة، فالمقارنة لا يمكن أن تستقيم بيْنهما؛ بل لا تصادم بيْنها أصلاً.
وتداعيات طرْح تلك الإشكاليَّة هي ظهور زمرة تحبِّذ التمرُّد على الأصول بدواعي مصادمتها للمعقول، وهنا يكون النزاع بين أهل التَّوحيد لله في التَّشريع والعقائد، وأهل الأهواء النسبيَّة والمضطربة.
وأجلُّ مثال هم دعاة الفلسفة التفْكيكيَّة ونظريَّات ما بعد الحداثة، فكلها قائم على هدْم الأصول ونفي الثابت.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/6954/#ixzz2w2tNS7jG
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق