لما كنتُ في طابورِ المصريين، أنتظر أن يأتي دوري لأدلي بصوتي في انتخاباتِ مجلس الشعب 2011، كان هناك شبابٌ يوزِّعون منشوراتٍ لبعض المرشحين توضح برامجَهم الانتخابية، ويستحثون النَّاس على التصويت لهم، وليس هذا بدعًا من الأمرِ في مثل هذا المناخ، ولكن الذي استوقفني أمرٌ آخر؛ يبدو أنَّ بعضَ الناس شاهد أحدَ الشباب يرشي شخصًا ما ليشتري صوتَه، فأخذ هذا الرائي يجولُ بين النَّاسِ ويهتف ويردد: "الراشي والمرتشي في النار"، دون أن ينظرَ إلى شخصٍ بعينه، لكن سرعان ما تمعَّرَ وجه أحد الشباب وتغير - هل هو الراشي أم لا؟ الله أعلم، واستوقف النَّاصح:
كيف تقولُ هذا الكلام، إنَّنا في زمنِ الحرية؟! فاحتوى البعض الموقفَ وكفَّ الناصحَ عن نصحه، وانتهى الموقف.
لكنني تعجبتُ غاية العجب، لا لأن هناك من لا يزالُ فاسدًا مفسدًا حتى بعد الثورة، ولكن لاحتجاجِ هذا الشخص بالحرية.
الحرية - حتى على مفهومِه هو - تقتضي منه ألا يستوقفه؛ إذ إنْ كان كل واحد حرًّا في تقديم الرشوة أو أخذها، فكل واحد حرٌّ أيضًا أن يتكلم بما شاء!
ولعمري، كم فسدت عقولُ أمثال هؤلاء حين ظنُّوها حرية!
الحريةُ عند فقهاءِ الإسلام تعني ما هو خلاف الرِّق، وذلك تمييزًا بين الحرِّ والعبد في التصرفاتِ والتكاليف والعقوبات.
لكن الحريةَ بمصطلحها الحديث الذي يعرفه النَّاس، وهو التحلل من القيود؛ فهذا مصطلحٌ مستورد من الغرب، ويسمَّى (liberty)؛ أي: أن تتصرَّفَ كيفما تشاءُ دون أن تتحكمَ فيك حكومةٌ أو فرد أو جماعة، تطوَّر هذا المصطلحُ حتى صار معناه المشهور عندهم التحررَ من جميعِ القيود، وأنَّ الإنسان هو الذي يحدِّدُ لنفسِه طريقتَه في الحياةِ ولا يستمدها من شرعٍ ولا عرف ولا غيره، بل ووجوب حماية جناب هذه الحرياتِ والدفاع عنها!
نحن نقول: الناس بعد الثوراتِ ذاقوا طعمَ الحرية! وهذا يعني نوال الشعوب حقَّها في الاستقلال، وتلك هي الحريةُ السياسية، ووراؤها حريةُ الأمَّة في تفكيرِها وثقافتها، واتجاهاتها الإنسانية الكريمة، لكن هل يعني هذا أنَّهم يتحرَّرون من القيودِ الاجتماعية والعرفية والشرعية؟! بالطبعِ لا، إنما تحرروا من الاستبدادِ السياسي والاضطهاد والقمع والظلم، لكن قطعًا لا يعني تحررهم من الشرع.
والذي يقول: "نحن في عصر الحرية"، لا بدَّ وأن ينصرفَ كلامُه إلى هذا، فأنت لك الحق أن تفكِّرَ سياسيًّا، تنقد النظام كما تشاء، طالما في حدودِ الأدب والحوار الراقي البعيد عن الألفاظِ النابية، دون أن تتعرَّضَ للقمع؛ فلصاحب الحقِّ مقال.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان لرجلٍ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقٌّ، فأغلظ له؛ فهمَّ به أصحابُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ لصاحبِ الحقِّ مقالاً))، فقال لهم: ((اشتروا له سنًّا فأعطوه إياه))، فقالوا: إنَّا لا نجدُ إلا سنًّا هو خير من سنه، قال: ((فاشتروه فأعطوه إياه، فإنَّ من خيركم - أو خيركم - أحسنكم قضاء))؛ مسلم.
أمَّا أنْ يسيء النَّاسُ فهمَ أو استخدام هذا المصطلح ليفعل مَن شاء ما شاء وقتما شاء أينما شاء، فهذا يعني أنَّنا في منحدرٍ في غاية الخطورة؛ لأنَّ الحريةَ بهذا المعنى لا تتناسب معنا نحن أهل الشرق خاصة، ولا مع أهل الإسلام عامَّة.
فلا يصح أن نتخذَ هذا المصطلح تجارة نافقة، وإلا لو فتح مثل هذا الباب بالمفهوم الغربي لخربتِ الديار، وكان الحال كمثل من قال: "بنى قصرًا وهدم مصرًا"؛ ذلك لأننا لدينا من الثقافةِ والقيم والتاريخ ما يعصمنا من الانقيادِ والذوبان.
الحرية في غير الإسلام:
هي حرية جوفاء، بل هي العبودية المذلِّة المهينة، عبودية الشهوة وأسر الهوى وقيد الشيطان، أن تزني حين تريدُ أن تزني، أن تسكرَ حين تريد أن تسكر، لستَ مقيدًا بقيد، هذا ببساطة (سَلَس الشهوة) متى جاءك، لا تستطيعُ منعه، إذًا أنت أسير له.
أما الحرية في الإسلام:
تعني شيئًا واحدًا، وهو أنَّ الإنسانَ يتحرَّرُ من سيطرة الهوى والشيطان، والسلطانُ الذي يسيطرُ عليه إنما هو سلطان الشرع الحنيف، وهذا (ألف باء) كونه (مسلمًا).
بالإسلام يفارقُ الآدميُّ الحيوانَ في التغلبِ على شهوته ونزوته، وما ابتُلي آدم وأُخرج من الجنَّةِ إلا لمثلِ هذا المعنى.
إذًا هي حريةٌ في صورةِ العبودية، ولا يمكن أن يتحرَّرَ البشر حقًّا إلا بتحقيقِ هذه العبودية؛ لأنَّك تتحرَّرُ من كلِّ سلطان؛ أرضي أو فلكي، وتخضع لسلطانٍ واحد، هو سلطان خالقك.
ولنضربْ على ذلك مثالاً بسيطًا: رجل طلب وظيفةً في شركة، ولهذه الشركة بروتوكول ولائحة، لا بد لكل موظف داخلها أن ينقادَ لها، من مواعيد للحضورِ والانصراف، وتحديد جزاءات وعقوبات محددة لكلِّ فعل يقومُ به الموظفون، وكل فرد في هذه الشركة عليه أن يساندَ الآخر في الالتزامِ بلائحة الشركة، ويحرم عليه إعانته على خرقِها أو التستر عليه إن خرقَهَا.
مع تجاوزٍ في التعبير: الشركة الإسلام، واللائحة: الأوامر والنواهي الشرعية، والمساندة: هي النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -: عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَثَلُ القائم على حدودِ الله والواقع فيها، كمثلِ قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلِها إذا استقوا من الماءِ مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا؛ وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا))؛ البخاري.
هناك أدلةٌ شرعية كثيرة، تحثُّ الإنسانَ على تدبر واقع مهم جدًّا، وهو أنه طالما ارتضى الإسلامَ فلا بدَّ أن يرضى بقيدِ الشرع؛ لأنَّ الأمرَ ليس بهين، والسلعة غالية جدًّا: ((ألا إنَّ سلعةَ الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة))؛ الترمذي. قال الألباني: صحيح.
من أشهر هذه الأدلة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر))؛ مسلم.
معناه أنَّ كلَّ مؤمن مسجون، ممنوع في الدُّنيا من الشهواتِ المحرَّمة والمكروهة، مكلف بفعلِ الطَّاعاتِ الشاقة، فإذا مات استراحَ من هذا، وانقلب إلى ما أعدَّ الله - تعالى - له من النَّعيم الدائم والراحة الخالصة من المنغصات، وأمَّا الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلتِه وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد.
ومن أدلة تصبيرِ المؤمن على شقاء الدنيا، والتنفيس عنه بأنه في الآخرةِ سيتنعمُ بما مُنع منه:
عن ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بالمداين فاستسقى، فأتاه دهقان بماءٍ في إناء من فضةٍ فرماه به، وقال: إني لم أرمِه إلا أني نهيتُه فلم ينتهِ، قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الذهب والفضة والحرير والدِّيباج هي لهم في الدُّنيا ولكم في الآخرة))؛ البخاري.
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((من شرب الخمرَ في الدنيا ثم لم يتب منها حُرِمها في الآخرة))؛ متفق عليه.
حتى إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - وصف لنا نساءَ الجنة حتى تزهد النفوسُ في حرامِ الدنيا، وتتوق إلى حلالِ الآخرة؛ وذلك لخطورةِ هذه الشهوة وامتداد شبقها: ﴿ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴾ [الرحمن : 72 - 76].
واستفاضت السنةُ في وصفِ هذا الأمر، لتوق النفس البشرية له:
عن أنسٍ بن مالك، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيدِه لو اطلعت امرأةٌ من نساءِ أهل الجنة على أهلِ الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحًا، ولنصيفها على رأسِها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها))؛ ابن حبان، قال شعيبُ الأرنؤوط: إسنادُه صحيح على شرطِ الشيخين.
وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يُعطى الرَّجلُ في الجنَّةِ كذا وكذا من النساء))، قيل: يارسول الله، ومن يطيقُ ذلك؟ قال: ((يعطى قوة مائة))؛ ابن حبان، قال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قِيل له: أنطأ في الجنَّة؟ قال:((نعم، والذي نفسي بيده دَحْمًا دَحْمًا، فإذا قام عنها رجعتْ مطهرةً بكرًا))؛ ابن حبان، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
((دحمًا دحمًا)): هو النِّكاحُ والوطء بدفعٍ وإزعاج؛ قاله ابنُ الأثير في النهاية.
فلا يصحُّ أن نفهمَ الحرية على أنها تقييدٌ للنَّاصحين الآمرين بالمعروفِ والناهين عن المنكر، وهذا جانبٌ واحد من إساءة فهم الحرية، وهو أهمها على الإطلاق، ناهيك عن إساءةِ استخدامها في مخالفةِ القوانين التنظيمية - كقواعد المرور ونحوها - أو الحرية غير المسؤولة... إلخ؛ وليس هذا بيت القصيد.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/36868/#ixzz2w1MwFjMs
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق