الخميس، 13 مارس 2014

الوجه الآخر لطه حسين

الوجه الآخر لطه حسين
من مذكرات السيدة سوزان "معك"
[1]


1- الوجه الآخَر لطه حسين:
نشرتِ السيِّدة "سوزان طه حُسين" مذكَّراتِها عن حياتِها مع زوْجِها في مجلة "أكتوبر" المصريَّة، ولمَّا كنَّا قد أصْدرْنا كتابَنا "طه حسين: حياته وفكْره في ميزان الإسلام"، فقد طلَب إليْنا بعضُ القرَّاء أن نقدِّم تصوُّرَنا لما كتبناه من قبْل، في ضوْء هذه المذكَّرات، وعمَّا إذا كانت هذه المذكِّرات تغيِّر شيئًا من وجهة نظرِنا السَّابقة التي كشفْناها في كتابنا، وخاصَّة أنَّ الحلقات بلغتْ بضْعَ عشرة حلقة، وتعرَّضتْ لمواقف كثيرةٍ من حياة الدكتور.
 
ويسعدنا أن نُجيب على هذا التساؤل وهو موضع اهتمامِنا، ولقد كان من حقِّ قرَّاء "الاعتِصام" الزَّاهرة عليْنا - ونحن نشرُف بأن ننتسب إلى كتَّابها منذُ بضع عشرة سنة - أن نقول: إنَّ ما كتبْناه عن طه حسين كان مُحاولة لترْجمة حياة رجُل دوَّى اسمُه في الشَّرق والغرْب، وسيْطر سيْطرة كاملة على الأدب والصَّحافة في الفِكْر سنواتٍ طويلةً، وله تلاميذُ وأتباع، وله فوق ذلك آراءُ ومفاهيم.
 
ولقد قدَّمنا حياة الدكتور طه حُسين مدعومةً بالوثائق والأسانيد، ولَم نعرض لأمرٍ ما في هذه الحياة دون أن نقدِّم "الوثيقة" الدالَّة عليْه، وخاصَّة في مجالات البحْث عن علاقاتِه بالاستشْراق وفرنسا والصِّهْيَونيَّة والمسيحيَّة والشيوعيَّة، ولم نكُن في صفِّ الاتِّهام له بأيِّ حالٍ، وإنَّما كنَّا مُحايدين، غيرَ أنَّ مجلَّة "الهلال" هي الَّتي صبغتْ ذلك كلَّه بصبغة الاتِّهام حين أصدرت عدَدَها "مايو 1977م" بِهذه العناوين:
"طه حسين في قفص الاتهام"، "هل كان طه حسين شيوعيًّا"، "هل كان طه حسين عميلاً للصهيونيَّة"، "هل تنصَّر طه حسين في كنيسة في فرنسا" ... إلخ.
ولعلَّ القارئَ المتابع لهذه المذكَّرات قد أحسَّ بذلك الجوِّ الكنائسي، المليء بالتَّراتيل والمزامير والقدَّاس الذي أضْفتْه السيدة سوزان على حياتِهما الاجتماعيَّة، وهذا الاحتِفال المتَّصل بأعياد العنصرة وعيد القيامة، وكيف كان طه حسين يستمْتع بهذه الأحفال.
 
وهؤلاء الكردينالات والقسُس والآباء الَّذين يملؤُون هذه الحياة.
 
وذلك الاهتِمام بأجراس الكنائِس حين سمّى (كلود)، الَّذي هو مؤنس ديوانَه باسمها، وذلك الهتاف الَّذي سجَّلتْه السيدة لابنِها حين يصبح يوم الأحد: "يا صباح إحدى الجميل".
 
تقول السيدة سوزان: عندما تأسَّست جامعة الدُّول عام 1945م اتَّخذ الطَّريق إلى بيتنا قادمون جدُد، هناك بدأت جلسات الأحد الَّتي سرعان ما اتَّسعت كثيرًا في الزَّمالك، كان طه خلالَها قطبًا حقيقيًّا، إذ ما كاد الأساتِذة الأجانب الَّذين كانوا يؤلِّفون أوَّل فريق يصِلون إلى مصر، حتَّى يأتوا بالطَّبع إلى بيتِنا لقضاء ساعة أو ساعتين برفقة زوجاتِهم، وكان منهم العميد جرايجور، والفيلسوف إميل برهين، وعالم الآثار الإنجليزي بحرندور، والشَّخصية السَّاحرة سكايف الَّذي كان أستاذًا للأدب الإنجليزي، وسالمر وسانياك.
 
ونحن نعرف معنى هذا تمامًا، لقد فتح طه حسين أبْواب الجامعة - وكلية الآداب بالذات - للمستشرقين وعتاة الدراسات التبشيريَّة والتغريبيَّة؛ ليحطِّموا في نفوس أبناء أمَّتنا كلَّ عقائدهم ومقدَّساتهم، فكان لا بدَّ أن يصِلوا أوَّل الأمر عند هذه (القاعدة) التي بنوْها في مصر، ومن هُنا نجِد أنَّ السيدة سوزان تقول: إنَّه عندما ترك طه الجامعة أعْلن هؤلاء الأساتذة أنَّهم لن يدخُلوا الجامعة إلاَّ إذا عاد هو، وهذا ليس معنى يفسَّر على أنَّه مكانة عالية لطه حسين، وإنَّما هو في الحقيقة علامة على التبعيَّة.
 
وتقول السيدة طه حسين: وخاصَّة تلك اللقاءات الَّتي كانت تتمُّ بوجْه خاصٍّ مع أناس قادمين من خارج مصر، والَّتي كانت تزداد بنسبة مُثيرة، وكانت حصيلتها مُحاورات خصبة بالنَّتائج وتبادُل الأفكار واتهامات مختلفة، بقدر ما كان ينتج عنْها أيضًا حجارة جديدة من أجل البناء الذي كان طه حسين يتابع إنشاءَه بكتُبِه ونشاطه.
 
ونحن نعرِف أنَّ هذه الجلسات مصدرُ تلك القنابل المحرقة، التي كان طه حسين يُلقيها على الإسلام والتَّاريخ الإسلامي والفكْر الإسلامي يومًا بعد يوم، وأنَّها كانت مصدر الوحْي لدراساته المختلفة التي سبق بها المستشرقين أنفسَهم إلى تصوُّرات تهدم التُّراث الإسلامي، حتَّى لتقول السيدة طه حسين إنَّه كتب إليْها مرَّة يقول: "إنَّ أبحاثي الشخصيَّة تصِل إلى نتائج كبار المستشرقين نفسها، أتدْرين أنَّني قرَّرتُ ألا أقرأ أبحاثَهم إلاَّ بعد أن أنجز أبحاثي لأكون على علم بها فقط".
 
ومعنى هذا في تقديرِنا: أنَّ طه حسين قد تمكَّن من العقيدة الاستشراقية بمفاهيمها إلى الدَّرجة الَّتي لم تجعلْه في حاجة إلى أن يقرأَ للمستشْرقين، ونحن نعجب كيف أنَّ طه حسين طابقَ المستشرقين أو سبقهم، أو تابعهم في آرائه المختلفة؟!
1- في رأيه في الشِّعر الجاهلي الذي سبقه به مرجليوث.
2- في رأيه في المتنبِّي الذي سبقه به بلاشير.
3- في طريقة كتابِه "هامش السيرة" التي سبقه بها الكاتب المسيحي فلان. 
4- في "نظريَّة في الأدب والنقد" التي سبقه بها تين وبرونتير. 
5- في نظرية أنَّ الدين نبت من الأرض ولم ينزِل من السماء، كما سبقه بها دوركايم. 
6- في رأيِه أنَّ وجود إبراهيم وإسماعيل لا دليلَ عليْه تاريخيًّا، وقد سبقه بها هاشم العربي.
 
2- ولا عجب أنَّ السيدة طه حسين تكرِّر دائمًا عبارة: إنَّ الطلبة حملوه على الأعناق وإنَّ الطلبة هتفوا له، وإنَّ الأزهريين حضروا محاضراتِه في الجامعة الأمريكيَّة وصفَّقوا له.
 
نحنُ نعرف كيف كانت الحزبيَّة تنظِّم هذه الاحتفالات، فلا تخدعنا أبدًا، ونعرِف أنَّ المصريِّين يحبُّون "الفرجة"، فهم يَجتمعون في المحاضرات لا ليسْمعوا طه حسين، ولكن ليشاهِدوه بعد أن عُزِل من الجامعة، أو أُخْرِج من الوزارة، أو أيّ موقف آخر؛ فليس هذا دليلاً على الحبِّ والولاء، وليس له دليل على المتابعة في الرَّأي.
 
نحن نعرف كيف كان الطلاَّب يَحملون الأساتذة في مظاهرات الأحزاب، ونعرِف أنَّ طه حسين عندما سافر إلى الصَّعيد وهو وزيرُ المعارف كان يُفاجَأ بأن يهتف باسمه في كلِّ محطَّة يقِف فيها القطار، يبتسِم ويُحيي هؤلاء ظنًّا منه أنَّ الأمَّة كلَّها خرجت لاستِقْباله، وقد تبيَّن من بعد أنَّ حزب الوفد قد حجز عربةً لمجموعة من (الهتِّيفة) كانوا ينزلون من القطار عندما يقِف، ويتقدَّمون إلى الدِّيوان الَّذي يَجلس فيه، فيهتِفون ثمَّ يُسرعون بركوب القطار، ويا للسُّخْرية!
 
3- ولقد عرفْنا من مذكَّرات السيدة سوزان طه حسين صورة تدْعو إلى التساؤل:
لماذا هذا الاهتمام الخطير بالاتصال بالأحزاب، والصراع والخصومة مع زعماء الأغلبية - أوَّل الأمر؟ والانتِماء إلى أحزاب الأقلّيَّة؟ ثمَّ تحوُّله بعد ذلك، لماذا هذا الصِّراع مع الأحزاب؟ وهو الرَّجل الأديب في الجامعة، والعالم الذي يَجب أن يحتفِظ بطابع العلماء وحده.
 
ولقد أجبْنا على ذلك في كتابِنا: أنَّ طه حسين يعتصِم بالأحزاب ويقوِّي مركزه بها؛ ليكون أكثر قدرةً على تحْقيق ما هو مطلوب منه: في تغْيير المناهج، وفي تعْيين الأساتِذة، وفي استِقْطاب الأجْيال الَّتي تسير وراءَ خطَّته، وتحمِل آراء التَّغريب والغزو الثقافي.
 
4- وتسود مذكَّرات السيِّدة سوزان صورة الولاء الأجنبي واضحة، وذلك في عدَّة مواضع، منها: زيارته لإيطاليا واشتِراكه في مؤتمر المستشرقين.
 
تقول: كان المطران تيسيران - ولم يكن قد أصبح كاردينالاً بعد - يعرِف طه حسين معرفةً جيِّدة، فأخذه من ذِراعه وقال لي مبتسمًا: "لا تقْلقي، سوف أعيده إليك"، وكان المطران تيسيران هو الَّذي قدَّم طه حسين إلى البابا بيوس الحادي عشر، وكان بيوس الحادي عشر مستشرقًا، وكان قد أراد استقبال مؤتَمر المستشرقين، وقد وجَّه لطه كلمات في منتهى الرقَّة كما وجَّه إليَّ أيضًا مثلها.
 
وبعد الجلْسة الأولى تنازَل (نلينوعن رئاسة التَّعليم لطه، ونحنُ نعْرِف معنى هذا كلِّه، وتقدير هؤلاء جميعًا والكنيسة الكاثوليكيَّة كلها لأفضال طه حسين، ونعرِف معنى أن يضعوه على رأْس مؤتمر الاستِشْراق، تقول: ولم يسبق أن حدث هذا الأمر إطلاقًا، ونحن نعرِف أنَّ طه تميَّز عن جميع الَّذين اصطنعهم الاستشراق.
 
وتصوِّر السيدة سوزان كيف أنَّ جَميع المستشْرقين في أنحاء الأرْض، كانوا إذا مرُّوا بِمصر زاروا طه حسين، وأنَّ جورج حنين والأب قنواتي كانوا يأْتون بأصدقاء يمرُّون عبر القاهرة إلى بلد آخر، وأنَّها كانت وطه يلتقيان بهم في بلادهم بعد: في فرنسا أو في إيطاليا.
 
وتعجبُ السيدة سوزان لأنَّ المشايخ كانوا يحاورون بصداقة من الأدباء الدومينكان، أو مع رئيس كلّية الأسرة المقدَّسة الأب العزيز (فارغو)، أو الأستاذ جورج درينتون مدير معهد الآثار، أو المطران ديبس أو أديل، أو ابنا ميل أو موسكاتيلي.
 
وتدْهش لهؤلاء المشايخ، فليْس هؤلاء إلاَّ مصطفى عبدالرازق وأمين الخولي، وبعض الأذلاَّء الطَّامعين في نفوذ طه حسين؛ للحُصول على درجة أو منصب.
 
ولقد أضفتِ السيِّدة سوزان على مذكَّراتِها روحًا كنسيًّا، وطابعًا مسيحيًّا خالصًا، ممَّا يدْهش له القارئ، ويعجب كيف عاشتْ هذه السيدة في مصر خَمسين سنة، ولم تستطِع أن ينشرح صدرُها لطوابع مصر الإسلامية، بل على العكس من ذلك ظلَّ بيتُها سجنًا رهيبًا للغة الفرنسيَّة؛ فلم يكن أحدٌ فيه يتكلَّم العربيَّة، حتَّى ابن عميد الأدَب لم يعرِف العربيَّة، وقدِ استطاعتْ أن تبني ذلك الحاجز الخطير بين مصْر وتقاليدها وقيمها العربيَّة الإسلاميَّة وبينها، فظلَّت حتَّى آخر أيَّامها لا تكتب ولا تتكلَّم ولا تعيش إلاَّ في جو فرنسي، وما في حياتِها شيءٌ أبدًا يُوحي بالروح العربيَّة أو الإسلاميَّة؛ فهي في ليلة عيد الميلاد تستمِع إلى قداس منتصف اللَّيل من الرَّاديو، تبحث عن محطَّة فرنسيَّة، وهي لا تستقبل إلاَّ هؤلاء القساوسة والكردينالات الفرنسيِّين الغربيِّين.
 
لقد عاشت هذه السيِّدة في مصر هذه المدَّة الطويلة دون أن تتمصَّر أو تتعرَّب، أو تجد رائحة هذا الجوّ، وإنَّما عاشت في تعصُّب وإصْرار على جوِّها الفرنسي الغربي المصطنَع.
 
ولقد كشفت السيدة طه حسين تِلْك الصورة القاتمة التي كان يعيشُها الدكتور طه حسين، أزمات وراء أزمات، وأحداث متوالية من الضيق والمصاعِب والمشاقّ، والتطلُّعات والبحْث عن الموارد الجديدة من كلِّ مكان، فما صفَتِ الحياة يومًا، وهي في كلِّ هذه الحلقات تُعْطي انطباعًا سيِّئًا مظلمًا متجهِّمًا لحياة طه حسين وأيَّامه، وقد صوَّرتْه بصورة الرَّجُل الخائف المذْعور، الَّذي تنتابُه الأحداث من كل ناحية، فإذا به ينقبِض ويعتزل بيْنه وبين الناس الأبواب، ولا يستطيع أن يرْفَعَ رأسَه إلى السَّماء ليدعوَ الله أن يفرِّج عنْه.
 
وتقول السيِّدة: على الرَّغم من دعوة الجامعة والصحيفة (جريدة السياسة)، فقد بقِي وضْعُنا المادِّي في منتهى السوء، وبعد مُماطلة ومضايقات انتهى المجلِس إلى الموافقة على زيادة ضئيلةٍ قدرُها أربعة جنيهات للأساتذة.
 
لقد كان ذلك عام 1922 م، ومع ذلك فقد ظلَّت السيِّدة تردِّد هذه النغمة طويلاً، فما أحسَّت أبدًا أنَّ كلَّ ما جاء به طه حسين من التَّأليف والصَّحافة والجامعة يكْفي ليحقِّق طموحَها في الحياة على أعلى مستوى.
 
تقول: "كلُّ ما كان في السَّنوات التَّالية ينذِر باستمرار؛ إذْ كان كل ذلك عاجزًا عن أن يؤمِّن ما يسمى بمورد ثابت".
 
ومع ذلك فالأستاذ سلامة موسى في حديثِه مع طه حسين في الهلال سنة 1924 م يَحسُد طه حسين على ذلك المستوى الذي لم يصِل إليه هؤلاء أبدًا.
 
وأعطَتِ السيدة سوزان صورة مزعجة لطه حسين، الَّذي كان قد تحوَّل إلى نموذج أجنبي خالص، حيثُ يشكو لها في رسالةٍ بعض الأزمات إبَّان غيابِها، ثم يقول: "عندما رجعت إلى البيت: ذهبتُ مباشرة إلى الصورة وركعتُ أمامها، وقصصت الأمر عليْها بصوْتٍ عال"، هكذا كان يفعل هذا الرَّجُل الذي كتب تاريخ الإسلام: يركع أمام صورة ويشكو لها، ألا يشكو إلى الله خيرًا له؟!
 
وهي تصوِّر طه حسين وقد غرق في ترنيمات الكنائس وأجراسِها وتراتيلها، مع الإعجاب الصَّادق بجوِّ الأحفال الكنسيَّة والموسيقا الفرنسيَّة على نحو يعْجَب له القارئ.
 
يقول: "بالأمس كان عيد العنصرة، ومرَّة أخرى ترد إلى خاطري بصفاء بالغ ذكرى عيد العنصرة في (بار دونيه)، كنتُ قد استمعتُ إلى القداس في الكنيسة من الأعلى، وكان الخوري العجوز قد قرأ إنجيل يوحنا، كان: "سلامًا أترك لكم سلامي أعطيتم" إنجيل يوحنا - ثمَّ كررت على مسامعِك (تقول لطه) هذه الكلمات بانفعال: أذكر هذا الصباح وأفكِّر في ذلك التوافق السرِّي الَّذي وحَّدنا دومًا في احترام كلٍّ منَّا للآخر، كنت غالبًا ما تحدِّثني عن القرآن، وكنت تقرأ التَّوراة وكنت أتحدَّث إلى يسوع، كنت تردّد في كثير من الأحيان أنَّنا لا نكذب على الله... إلخ.
 
وتتحدَّث عن شيء آخر جدُّ خطير، فطه حسين الَّذي كان مؤهَّلاً لأن يطرح من الأفكار ما يشاء له المخطط المرْسوم أن يطرح، كان حريصًا على أن يكون له ساند من الحزب الذي يَحميه، وكان حريصًا على ألاَّ يُحال بيْنه وبين نشْر آرائه وأفكاره المسمومة؛ تقول: إنَّه هاجم القصر، لا لكي يدافع عن الحكومة، وإنَّما لأنَّ القصْر يريد الحدَّ من حريَّة المعتَقَدات، فالأدْيان المعترف بها هي الَّتي ستكون مسموحًا بها في مصر، والملحد لا يستطيع أن يعلن نفسَه ملحدًا، فهل يسَع الإنسان الذي دافع عن كل الحريات، وفي المقام الأوَّل حرية الضمير أن يبقى غير مبالٍ؟".
 
وتقول: "نعم، فقد كان يريد طه حسين أن يبقى الباب مفتوحًا لكل الأدْيان والنحل والمذاهب"، وهي تسمي ما حدث بعد صدور الشِّعر الجاهلي بثورة الجهْل والغضب، وتصوِّر نقْد النقَّاد له بعبارات عجيبة فتقول: هذه الأحكام البليدة والتحيُّز الأخرق والحقْد الحاسد ضدَّ إنسانٍ شريفٍ، وجرِّه إلى المحكمة والتَّهديد بالموت، الذي كان وراء إقامةِ حراسةٍ على مدْخل بيتنا أمام باب الحديقة خلال عدَّة أشهُر.
 
وتقول: إنَّه كان يستعيد في سنواته الأخيرة تلك العقبات التي كان يُواجِهُها، والرَّفْض الَّذي جُوبِه به، والهزْء بل الشَّتائم من أولئِك الَّذين كانوا بحاجةٍ إلى مرور زمن طويل حتَّى يتمكَّنوا من الإدراك، وتقول: إدراك ماذا؟
 
لقد صدق هو نفسه حين عبَّر في آخر حياته عن حصاد حياتِه بعد أن تحطَّمت كلُّ النظريات التي قدَّمها وبان عوارها، وتكشَّف فسادُ كلِّ الدَّعوات التي حاول أن يُقيمها، ولم تكن عبارته التي سجَّلتها السيدة سوزان إلاَّ رمزًا لهذه الحياة: "هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟!".
 
وتقدِّم السيدة سوزان صورة لذلك التناصُر الخطير الذي قدَّمه المستشرقونوالكردينالات ورجال الفِكْر الغربي لذلك الرجُل، وكيف استقبله البابا، وفي كلِّ مؤتمر كانت هناك محاولات ضخْمة لتكريمه وإعلاء شأنه، نياشين وتحف وهدايا وتحيَّات.
 
كان يكتُب له أحدُهم يرغستراسةهذا الإهداء: "طه حسين الذي يناضل في الصف الأول في سبيل تقدم الروح العلمية".
 
ولما أُخْرِج من الجامعة اعتصم المستشرقون (وأدال جرانت، بيرغستراسة)وقالوا: لن نعود حتى يعود طه.
 
وكتب المستشرق ليفي ديلافيدا مصوِّرًا مدى الخطر على خططهم من خروج طه من الجامعة، ومدى جزَعِهم على أهدافهم الَّتي كان يُمثِّلها حين قال: "أحزنتْني هذه الأخبار بصورة عميقة، إنَّ تاريخ النضال من أجل الحريَّة العلميَّة لم يستكمِل مسيرتَه بعد، ولكن ذلك سيتحقَّق يومًا وإنِّي على اقتناع بذلك، وسيتحقَّق ذلك بانتصار روح الحريَّة، والحقيقة بأنَّ المأساة التي أصابتْكم ستكون عارضة، وإنِّي لعلى يقين من ذلك؛ لأنَّ قضية كقضيَّتكم بل أقول: قضيَّتنا - هي من القضايا التي لم تكن خاسرةً في يوم من الأيام".
 
ونقول لهؤلاء: لقد خسِرَتْ قضيَّتكم أخيرًا وانكشف فسادُها.
 
ذلك بعض ما قدَّمتْه لنا مذكرات السيدة سوزان، وإليك هذه الملاحظاتِ:كان الدكتور طه حسين حريصًا على أن يصوِّر نفسَه للنَّاس على أنَّه غضنفر، لا تَجتاحه الأحداث ولا تنوشه السِّهام، فهو قائم دائمًا مقام الدفاع عن نظريَّاته.
 
ولكنَّ مذكرات السيدة سوزان كشفت عن صور مغايرة تمامًا؛ لذلِك فهي تقول مثلاً: إنَّه في قضيَّة إسماعيل صدقي، مرَّ طه حسين بساعات يائِسة إلى حدِّ أنَّه اعترف لي (طه حسين) بعدَها أنَّه فكَّر كثيرًا في الانتِحار.
 
وتقول: لقد حدث لنا شيءٌ مذهِل أطلق نفسه عليْه وصف (الشيطان)، فقد وقع نتيجة الإرهاق والمرض والوضْع الفاضح، وتمسُّكه في عزل نفسِه عن النَّاس فريسةَ إحدى النَّوبات السَّوداء المحنقة الَّتي كثيرًا ما عرفتُها، كان إذ ذاك يَحبس نفسَه وراء صمتٍ شرِسٍ مُخيف، كما لو أنَّه سقط في أعماق حفرة لا يستطيع أي شيء على الإطْلاق أن ينتزعه منها، كانت حياتي تبدو كأنَّما قد توقفت وانسحقت بلا أمل في مواجهة عزلة مطْلقة يفرضها على نفسِه، ورفْضه العنيد سماع أقلِّ كلمة تريد أن تحاول معونته.
 
وهي تتحدَّث عن عمله في كوكب الشَّرق بعد أن خرج من حزْب الأحرار،وانضمَّ إلى الوفد دون أن تشير إلى ذلك أدنى إشارة، عندما تركَ أصدقاء الأمس وهدَّدهم في كوكب الشرق بفضح أسرارِهم، ولكنَّ الَّذي يهم السيدة سوزان هو الموارد المادّيَّة فقط.
 
تقول: "كان يعمل في جريدة "كوكب الشَّرق" كما يعمل محْكوم عليه بالأشْغال الشاقَّة، فقد كان يقضي فيها كلَّ ساعات الصَّباح، وعندما حلَّ الصَّيف كانت الحرارة لا تُطاق، وكان المتطفِّلون الَّذين يغيظونه يوجدون دومًا عنده في اللَّحظة التي يكتب فيها مقالَه"، أمر لا يكاد يصدق، كيف أنَّهم لم يدركوا أنَّهم كانوا يسبِّبون له المزيد من التَّعب بتطفُّلهم هذا؟!
 
وتقول: "إنه اندفع في الكتابة فأُقيمت دعوى على الصحيفة، وذهب طه حسين عدَّة مرَّات إلى النيابة، أمَّا هي فكانت قد سافرتْ إلى فرنسا؛ لأنَّها لا تحتمِل صيف مصر وتركتْه، فكتب إليها يقول: يبدو أنِّي أهنتُ الشَّيخ الأكبر وكلَّ المشايخ، ورئيسَ الوزراء وكلَّ الوزراء، بل ربَّما أهنتُ في النِّهاية كلَّ النَّاس، كان ذلك عملاً أحمق وشريرًا، بل إنَّ المحقِّق نفسه لم يُخْفِ اشمئِزازه ممَّا كان يعمله، وكنتُ أودُّ لو سمعت إجاباتي السَّاخِرة".
 
تقول: "واستمرَّت الخصومات التي لا تطاق مع مالك عنيد، لم يستطع طه أن يتابع العمل في هذا الجوِّ؛ فالنحَّاس يشجعه معنويًّا من ناحية، وتقنطه اللامبالاة العامَّة من جهة أخرى".
 
وأخرج جريدة الوادي، وتقول: إنَّه كان "يتشاجر مع الآلات الَّتي لم تكن تسير، ويشْكو من الورَق الَّذي لا يُرسلونه، وحروف الطباعة التي لم تكن تكفي".
 
وتصوِّر كيف كان الموقِف بعد إخراجه من الجامعة فتقول: "كان يدفع غاليًا ثَمَن جريدته في أن يكون إنسانًا حرًّا، إلاَّ أنَّهم كانوا يريدون سحْقه حقًّا هذه المرة؛ إذ لم يكتفوا بطرْدِه من الكلية التي كان عنوانًا لعزَّتها وكرامتها وقوَّة نابضة فيها، وإنَّما أرادوا إحراق كتُبه، فأخذوا من بيته الَّذي يسكُن فيه وأغرقوه بالشَّتائم، وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بِمنعهم مثلاً بيع الصَّحيفة التي كان يصدِرُها، وبإنذارهم البعثات الأجنبيَّة في مصر بالكفِّ عن أن تقدِّم له عروضًا للعمل، ولا بدَّ هنا من الثَّناء على الجامعة الأمريكية في القاهرة التي تحدَّتْ هذا الإنذار، وطلبتْ من طه حسين تقْديم مجموعةٍ من المحاضرات، الأمر الَّذي قدَّم له دعمًا لا يقدَّر بثمن.
 
تقول: ولم يقِف الأمر عند هذا الحدّ؛ فإنَّ القوى قد تنادت لنصرته، وسأله كبيرهم (ماسنيون) عمَّا إذا كان على استِعْداد للذهاب للولايات المتَّحدة، وتوالت دعواته إلى المؤتمرات، أصدقاء في فرنسا وفيينا وإيطاليا (ليتمان وبيرغسترا وبونكر) وغيرهم.
 
وكانت تصوِّر بإعجاب موقف طه حسين، وهو يرثي كبار رجال الاستِشْراق باسم الجامعة المصرية، وكيف زار الجامعة العبريَّة بالقدس، وكيف وقف يرلي بول دومير (مؤسس الكوليج دي فرانسوما أدراك ما الكوليج دي فرانس؟! إنَّه المعهد الذي يخرج قادة التَّغريب في بلاد المسلمين.
 
تقول: "وقف طه حسين يُلْقي خطاب الجامعة المصريَّة في جلسة مهيبة في القاعة الكبرى بجامعة السربون، وعندما وصلنا - طه حسين وأنا - إلى المنصَّة الكبرى، نزل بول درجات المنصَّة وجاء إليْنا، وتناول ذراعَي طه حسين بذراعيْه، فصفق الحاضرون تصفيقًا بلغ من القوَّة حدًّا أثار ذهول أمي"، نعم، وأكثر من هذا يَحدث: أليس رجُلَهم في مصر والشَّرق؟! ألم يكن أعظم ثمرةٍ في الشَّجرة كلها: هذا الَّذي سموه رينان الشرق؟!
 
وكانت السيدة سوزان تعرف مهمَّة طه حسين، وقد أفلتت العبارات منها أكثرَ من مرَّة لتكشف هذا الدور؛ فهي تقول: "لم يكن مثله بالَّذي يقبل أن يقوم بدور محدود". "ثمَّ إنَّ هنا معركته ومستقبله مهْما يكن هنا مصيره ورسالة وجوده".
 
وتقول في كتابٍ كتبَتْه لوالدتِها: "إنَّنا نصنع على كلِّ حال أشياء ستبقى، ولن يستطيع أحد فيما أظنُّ أن يقوِّضها".
 
وتقول: "لمَّا عاد عميدًا من جديد، كانت كل أنواع الأفكار تدور في رأسِه، وكان عليه أن يضَعَها موضع التنفيذ"، وكان هو يقول: "إنَّك تعرفين هذا النَّوع من الرِّضا الَّذي يعقب القيام بالواجب، وإنَّ المرء على مستوى الرِّسالة التي كلِّف بها رغم المصاعب التي يواجهها".
 
وكانت تشيد بمحاضراتِه في الجامعة الأمريكيَّة، وجمعية الشبَّان المسيحيين التي كان يحتشِد فيها الألوف.
 
كان واضحًا من هذه الصورة كلّها: زيارات المستشْرقين، والمحادثات الطويلة التي كان يصنع فيها موضوعاته، ومقابلاته هناك والاحتفاء به، وجورج حنين والأب قنواتي اللذين يأتيان إليه بكلِّ مَن يمرُّ بالقاهرة من الآباء والكردينالات والمطارنة.
 
وهم لا يتوقَّفون عن تشْجيعه، فيكتبون له بين حين وحين، تقول جوزيه كابورني: "في دوَّامة التيَّارات الثَّقافيَّة بحريَّة، وسرعان ما غدوتهم رجل الساعة، ووجَّهتهم القوى الروحيَّة في هذا البلد في اتِّجاه لا يستطيع أحد أن يتنبَّأ بمآله".
 
وفي مصر كان لطفي السيِّد وعبدالعزيز فهمي، وثروت، وعلي عبدالرازق، وعشرات من الَّذين يسيرون على نفس الدَّرب، كانوا من حوله دائمًا.
 
وتتحدَّث عن الزَّواج المختلط، وتُنْحي باللاَّئمة على الشَّيخ محمد بخيت الذي انتقد الزَّواج المختلط، وتنسى أنَّ طه حسين نفسه قبل سفره إلى أوربَّا حمل على المصري الَّذي يسافر إلى أوروبا ويتزوَّج أجنبيَّة.

وقالت: إنَّ الشَّيخ بخيت قال لطه حسين: لو كنت حرًّا لاشترعت قانونًا ينفي كلَّ مصري يتزوَّج أجنبيَّة يا دكتور طه، ما هي الأسباب الحقيقية التي حملتْك على الزَّواج من أجنبية، وأنت مصري؟! فكيف أقدمت على هذا العمل؟!
 
هذا قليل من كثير تقدِّمُه مذكرات السيدة سوزان، وملاحظتنا أنَّ السيِّدة سوزان لم تتمكَّن من استِيعاب حياة طه حسين استيعابًا كاملاً، وغفلت عن جوانب كثيرة من أدقِّ مراحلها ووجوه كثيرة من أبرز معالمها، ولكنَّنا نستطيع أن نقول: إنَّه في حدود ما رسمته السيدة سوزان فإنَّ طه حسين كان يعيش في أربعة محاور:
1- حياة شخصيَّة من الناحية المادِّيَّة تتطلَّب الجهد البالغ لإعطاء المادَّة،وتجرى التفسيرات كلها حول صورة الفقر ومُحاولة الخروج منه، والجري إلى حد الإنهاك في سبيل توفير حياة رضيَّة، بيْنما كان الدكتور طه حسين يَحصل على مرتَّب أستاذ جامعة، ومرتَّب محرِّر في صحيفة الأحرار الدستوريين، فضلاً عن مكافآت كتُبِه ومقالاته هنا وهناك، وما كانت تقدِّمه الجامعة له ولزوْجته بمثابة بدل سفر وإقامة إلى مؤتمر سنوي للاستِشْراق أو لغيره، ولا ريب أنَّ هذه الصور التي رسمتْها السيدة سوزان مبالغ فيها، وهي توحي بأنَّ الدَّافع الَّذي كان يسوق حياة طه حسين هو الكسْب المادي، فكان يلهث وراء الموارد لتمْكين السيدة من أن تَحيا حياة أرستقراطيَّة باذخة.
2- حياة رجُل مريض الأعْصاب، يسقط بين آن وآن ويُغمى عليه مرَّة ومرَّة، ولا يستطيع أن يقاوم الأحداث وتفترِسُه الوحْدة والصمت أيَّامًا كلَّما ادلهمَّت الأحداث، ويركع أمام الصورة وأمام الأيقونة ويحدِّثها، وربَّما يقول لها كلمة أخرى.
3- الصورة المغايِرة لصورة الصَّلَف والغرور والاستِعْلاء، والبطولة الزَّائفة والشَّجاعة الكاذِبة، التي كان طه حسين يصوِّر بها نفسَه في مقالاته، بيْنما تصوِّره مذكرات زوجته في صورة مغايرة تمامًا. 
4- الصورة الكنسيَّة في أصدقاء كردينالات وآباء ورهْبان، وفي أعياد مسيحيَّة وفي مناسبات غربيَّة، وفي طوابع تومئ بانفصال طه حسين تمامًا عن الحياة المصريَّة والعربيَّة والإسلاميَّة بكل ملامحها، فكأنَّه ليْس أكثر من رجُل مستشرق غربي أجنبي يعيش في بلادنا، وآية ذلك أنَّه لم يستطع أن ينقل زوجته وأولادَه إلى المحيط العربي، وظلَّت زوْجته إلى اليوم وهي مُصرَّة على وجودها الأجنبي وجوِّها الأجنبي، بيْنما غيَّرت زوجات كثيرٍ من الأدباء الذين تزوَّجوا بأجانب حياتهنَّ، وبقيت رامتان لا يؤذَّن فيها لله ولا تنطق فيها كلمة عربية، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.
 


ــــــــــــــــــ
[1] صدر هذا الكتيب عن دار الاعتصام - القاهرة - في سلسلة في دائرة الضوء، رقم 25.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/7949/#ixzz2vr1oHiCH

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق