نشأتِ العلمانيَّة في أوروبا بحيث تقتضي الفصلَ بين الكَنيسة - التي كانت مهيمنةً على الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة لعدَّة قرون - وبين الدَّولة في كلِّ وظائفها، ابتداءً بميدان التعليم العموميِّ، والصلاحيات السياسيَّة والإداريَّة، والعلماني بهذا المعنى ينتمي للشأنِ المدنيِّ لا الكهنوتي، فهو مستقِلٌّ بل مُعادٍ تُجاهَ الدِّين، وما زالت العلمانيَّة في الغرب تقترب من هذا المعنى أو تبتعد عنه قليلاً، فلا تُعِير للدِّين مكانةً خاصَّةً، ولا تُناصِبه العَداء، والمقصود بالدِّين هنا هو النَّصرانيَّة بكلِّ كنائسها، فلا يَضِيره شيءٌ من الترتيبات العلمانيَّة.
لأنَّه دِينٌ فرديٌّ يخاطب الرُّوح، ولا يُعنى بالشأن العام، ولعلَّ الغرب استفاد من الفصل بين الكنيسة والحياة العامَّة، ولم يخسرْ إلاَّ قليلاً؛ لكنَّ مفهوم العلمانيَّة تطوَّر، فانتقلتْ من الوضع الأوَّل إلى "رؤية شاملة للكون بكلِّ مستوياته ومجالاته، لا تفصل فقط الدِّينَ عن الدَّولة وعن بعض جوانب الحياة العامَّة، وإنَّما تفصل كلَّ القِيَم الدِّينيَّة والأخلاقيَّة والإنسانيَّة عن كلِّ جوانب الحياة العامَّة في بادئ الأمر، ثُمَّ عن كلِّ جوانب الحياة الخاصَّة في نهايته، إلى أن يتمَّ نزْعُ القداسة تمامًا على العالم"؛ كما يقول د. عبد الوهاب المسيري - رحمه الله.
وإذا كان الأمرُ قد انتهى إلى هذا الحدِّ القبيح في الغرب - مسقط رأس العلمانيَّة - فهو في البلاد الإسلاميَّة أكثر قُبحًا؛ لأنَّ نفرًا من المتشبِّعين بالقِيم الغربيَّة تنكَّروا للإسلام والتُّراث والثوابت، فلم يكتفوا بتبنِّي العلمانيَّة بمفهومها الأصليِّ، وإنَّما فصَّلوا علمانيَّة عدوانيَّة لا تُنادي بتهميش الدِّين وإقصائِه عن الحياة العامَّة فحسبُ؛ بل تطالب بإحالته إلى المتحف، وإبطال فعاليته، وتضييق الخناق على قِيَمِه وشعائره وشرائعه، وأخلاقه ومظاهره.
وقد تولَّى كِبرَ هذا التحوُّل "أتاتورك" بعد إلغاء الخلافة الإسلاميَّة، ثم فُرِّخت هذه العلمانيَّة العدوانيَّة في كلِّ البلاد الإسلاميَّة، تحتضنها الأوساط الاستشراقيَّة والتنصيريَّة، والصِّهْيَونيَّة والماسونيَّة، وتُشجِّعها وتحميها، وتجعلها تتبوَّأ المراكزَ المرموقة المتقدِّمة في ميادين الثقافة والسياسة بالدَّرجة الأولى، حتَّى غدتْ صاحبةَ منابرَ وأصواتٍ، ونفوذ في معظم بلداننا، تُسمِّم الحياةَ الفكريَّة والسياسيَّة بالثقافة الوافدة، والحلول المستوردة.
وللعلمانيَّة في البلاد الإسلاميَّة مشتقات، فإذا كان أتاتورك، وشاه إيران، وسوهارتو أعلنوا صراحةً تبنِّيَهم للنِّظام العلمانيِّ، فإنَّ غيرهم لم تكن لهم هذه الجُرأة فتبنَّوْا العلمانيَّة، وبشَّروا بها؛ بل وفرضوها قهرًا، ولكن أطلقوا عليها أسماءً أخرى لا تُفزع المسلمين، ولا تستفزُّهم، وهكذا ظهر مصطلح "الليبراليين" في مصر، ودول الخليج؛ وهو يُشير إلى دعاة العلمانيَّة بالمعنى الثاني الذي ذكرنا، وكثيرٌ منهم كانوا قبل انهيار الشيوعيَّة العالميَّة من "اليساريين التقدميين الاشتراكيين"، أمَّا في الجزائر فيسمُّون أنفسَهم "الديمقراطيِّين" و"الجمهوريِّين"، والغريب أنَّهم يُعادون قواعدَ الديمقراطيَّة التي يُنادون بها، فلا يَقبلون نتائج الانتخابات إذا كانت في صالح غيرهم، ولا تتَّسع الساحةُ عندهم إلاَّ لأنفسهم.
أمَّا "الجمهورية" فيقصدون بها مبادئَ الدولة الفرنسيَّة التي تستبعد الدِّين نهائيًّا من الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وأمَّا على المستوى الثقافي، فقد برز مصطلح "الحداثة" منذ مدَّة على الساحة العربيَّة؛ وهو لا يَعني أيَّ شيء آخَرَ سوى العلمانيَّة في أكثر معانيها تشدُّدًا وعدوانيَّةً، فالحَداثيُّون يرفضون الأصالةَ؛ لأنَّها تُشير إلى الانتماء الإسلاميِّ، ولا تقرأ في شِعرهم النثريِّ وقصصهم ومسرحهم سوى دَلالاتِ الرَّفض لمعاني العقيدة والفضيلة، في مقابل احتضان المَنحى المسمَّى بـ"التنويري" المنفلت من كلِّ قيد دينيٍّ، أو ضابط أخلاقي.
هذه هي "مشتقَّات" العلمانيَّة في فضائنا:أوجه متعدِّدة لعُملةٍ واحدة، وليس من شأن هذا أن ينطليَ علينا؛ فقد علَّمتْنا الأصولُ أنَّ العبرة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني؛ لذلك ينبغي الحذرُ من التساهُل مع هذه المفردات المختلفة، فهي مجرَّد تمويهٍ؛ لمحاولة تمرير المشاريع العلمانيَّة عبرَ بوابات السياسة والثقافة والإعلام، وهي جميعًا تَصدُر عن قوس واحدة، رافضةً للمرجعية الإسلاميَّة، متسلِّلة عبرَ الشبهات والشهوات، مثل بعض الأخطاء في التاريخ، وقضية المرأة، ودعوى الإبداع.
ولعلَّ أخطرَ ما في الأمر نجاحُ العلمانيَّة بمشتقَّاتها في استمالة بعض "علماء الدِّين"، أو التغرير بهم؛ لإضفاء الشرعيَّة على أطروحاتها بزعم الحرِّيَّة التي جاء بها الإسلام، وتقديس الدِّين للإبداع، و"تبرئة" الإسلام من دنس السياسة، قد بدأ الأمر مع علي عبدالرازق منذ 1925، وما زال ممتدًّا مع أمثال "القرآنيِّين"، وبعض علماء السُّلطان؛ لكن في المقابل هناك بشائرُ تراجع العلمانيَّة، فهي تتقهقر في قلعتها العتيدة - تركيا - ببطء، ولكن باطِّراد، كما أنَّ وجوهًا بارزة في التيَّار العلمانيِّ تَرجِع إلى رُشدها، وتكشف الزَّيف، وتنطق بالحق؛ ومن أشهر هؤلاءِ الدكتور عبد الوهاب المسيري - رحمه الله.
لأنَّه دِينٌ فرديٌّ يخاطب الرُّوح، ولا يُعنى بالشأن العام، ولعلَّ الغرب استفاد من الفصل بين الكنيسة والحياة العامَّة، ولم يخسرْ إلاَّ قليلاً؛ لكنَّ مفهوم العلمانيَّة تطوَّر، فانتقلتْ من الوضع الأوَّل إلى "رؤية شاملة للكون بكلِّ مستوياته ومجالاته، لا تفصل فقط الدِّينَ عن الدَّولة وعن بعض جوانب الحياة العامَّة، وإنَّما تفصل كلَّ القِيَم الدِّينيَّة والأخلاقيَّة والإنسانيَّة عن كلِّ جوانب الحياة العامَّة في بادئ الأمر، ثُمَّ عن كلِّ جوانب الحياة الخاصَّة في نهايته، إلى أن يتمَّ نزْعُ القداسة تمامًا على العالم"؛ كما يقول د. عبد الوهاب المسيري - رحمه الله.
وإذا كان الأمرُ قد انتهى إلى هذا الحدِّ القبيح في الغرب - مسقط رأس العلمانيَّة - فهو في البلاد الإسلاميَّة أكثر قُبحًا؛ لأنَّ نفرًا من المتشبِّعين بالقِيم الغربيَّة تنكَّروا للإسلام والتُّراث والثوابت، فلم يكتفوا بتبنِّي العلمانيَّة بمفهومها الأصليِّ، وإنَّما فصَّلوا علمانيَّة عدوانيَّة لا تُنادي بتهميش الدِّين وإقصائِه عن الحياة العامَّة فحسبُ؛ بل تطالب بإحالته إلى المتحف، وإبطال فعاليته، وتضييق الخناق على قِيَمِه وشعائره وشرائعه، وأخلاقه ومظاهره.
وقد تولَّى كِبرَ هذا التحوُّل "أتاتورك" بعد إلغاء الخلافة الإسلاميَّة، ثم فُرِّخت هذه العلمانيَّة العدوانيَّة في كلِّ البلاد الإسلاميَّة، تحتضنها الأوساط الاستشراقيَّة والتنصيريَّة، والصِّهْيَونيَّة والماسونيَّة، وتُشجِّعها وتحميها، وتجعلها تتبوَّأ المراكزَ المرموقة المتقدِّمة في ميادين الثقافة والسياسة بالدَّرجة الأولى، حتَّى غدتْ صاحبةَ منابرَ وأصواتٍ، ونفوذ في معظم بلداننا، تُسمِّم الحياةَ الفكريَّة والسياسيَّة بالثقافة الوافدة، والحلول المستوردة.
وللعلمانيَّة في البلاد الإسلاميَّة مشتقات، فإذا كان أتاتورك، وشاه إيران، وسوهارتو أعلنوا صراحةً تبنِّيَهم للنِّظام العلمانيِّ، فإنَّ غيرهم لم تكن لهم هذه الجُرأة فتبنَّوْا العلمانيَّة، وبشَّروا بها؛ بل وفرضوها قهرًا، ولكن أطلقوا عليها أسماءً أخرى لا تُفزع المسلمين، ولا تستفزُّهم، وهكذا ظهر مصطلح "الليبراليين" في مصر، ودول الخليج؛ وهو يُشير إلى دعاة العلمانيَّة بالمعنى الثاني الذي ذكرنا، وكثيرٌ منهم كانوا قبل انهيار الشيوعيَّة العالميَّة من "اليساريين التقدميين الاشتراكيين"، أمَّا في الجزائر فيسمُّون أنفسَهم "الديمقراطيِّين" و"الجمهوريِّين"، والغريب أنَّهم يُعادون قواعدَ الديمقراطيَّة التي يُنادون بها، فلا يَقبلون نتائج الانتخابات إذا كانت في صالح غيرهم، ولا تتَّسع الساحةُ عندهم إلاَّ لأنفسهم.
أمَّا "الجمهورية" فيقصدون بها مبادئَ الدولة الفرنسيَّة التي تستبعد الدِّين نهائيًّا من الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وأمَّا على المستوى الثقافي، فقد برز مصطلح "الحداثة" منذ مدَّة على الساحة العربيَّة؛ وهو لا يَعني أيَّ شيء آخَرَ سوى العلمانيَّة في أكثر معانيها تشدُّدًا وعدوانيَّةً، فالحَداثيُّون يرفضون الأصالةَ؛ لأنَّها تُشير إلى الانتماء الإسلاميِّ، ولا تقرأ في شِعرهم النثريِّ وقصصهم ومسرحهم سوى دَلالاتِ الرَّفض لمعاني العقيدة والفضيلة، في مقابل احتضان المَنحى المسمَّى بـ"التنويري" المنفلت من كلِّ قيد دينيٍّ، أو ضابط أخلاقي.
هذه هي "مشتقَّات" العلمانيَّة في فضائنا:أوجه متعدِّدة لعُملةٍ واحدة، وليس من شأن هذا أن ينطليَ علينا؛ فقد علَّمتْنا الأصولُ أنَّ العبرة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني؛ لذلك ينبغي الحذرُ من التساهُل مع هذه المفردات المختلفة، فهي مجرَّد تمويهٍ؛ لمحاولة تمرير المشاريع العلمانيَّة عبرَ بوابات السياسة والثقافة والإعلام، وهي جميعًا تَصدُر عن قوس واحدة، رافضةً للمرجعية الإسلاميَّة، متسلِّلة عبرَ الشبهات والشهوات، مثل بعض الأخطاء في التاريخ، وقضية المرأة، ودعوى الإبداع.
ولعلَّ أخطرَ ما في الأمر نجاحُ العلمانيَّة بمشتقَّاتها في استمالة بعض "علماء الدِّين"، أو التغرير بهم؛ لإضفاء الشرعيَّة على أطروحاتها بزعم الحرِّيَّة التي جاء بها الإسلام، وتقديس الدِّين للإبداع، و"تبرئة" الإسلام من دنس السياسة، قد بدأ الأمر مع علي عبدالرازق منذ 1925، وما زال ممتدًّا مع أمثال "القرآنيِّين"، وبعض علماء السُّلطان؛ لكن في المقابل هناك بشائرُ تراجع العلمانيَّة، فهي تتقهقر في قلعتها العتيدة - تركيا - ببطء، ولكن باطِّراد، كما أنَّ وجوهًا بارزة في التيَّار العلمانيِّ تَرجِع إلى رُشدها، وتكشف الزَّيف، وتنطق بالحق؛ ومن أشهر هؤلاءِ الدكتور عبد الوهاب المسيري - رحمه الله.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/5633/#ixzz2w2BbQOou
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق