بعل الغرب وفتنة العصر
لا توجد كلمة لاَكَتْهَا أفواه الشعوب، واستهوتها قلوبهم، وانشغَلَت بها عقولهم، كهذه الكلمة، تَنَادَوْا بها في كل واد وناد، ذكروها في كل خطبة أو مقال أو كتاب، رفعوها شعارًا، وجعلوها غاية، يَرْخُص في سبيلها كل غال ونفيس! تُنفَق في سبيلها الأموال، وتُهدَر معها الأوقات، وتُزهَق من أجلها الأرواح، وتُسفَك في طلبها الدماء، قامت تحت شعارها الثوْرات، ووقعت تحت لوائها الانقلابات، وحِيكَت من أجلها المؤامرات، إنها الحرية!
وقد درج استعمالها بين عامة الناس وخاصتهم، وبين كبيرهم وصغيرهم، وبين رجالهم ونسائهم، يتردد صداها في جميع جوانب الحياة وأوساطها، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والتربوية، بل وداخل الأسر فيما بين أفرادها.
ومن هنا تلوح لنا أهمية تناول هذا الموضوع لنقف منه على:
1- معناه وخصائصه.
2- نشأته وتطوره.
3- موقف الإسلام منه.
4- بشائر ونفحات.
الحرية ضد العبودية، والحر ضد العبد:
الحرية: هي الإباحة التي تُمَكِّن الإنسان من الفعل المعبّر عن إرادته في أي ميدان من ميادين الفعل، وبأي لون من ألوان التعبير.
أو هي رفع اليد عن الشيء من كل وجه[1].
أو هي القدرة على التصرف بملء الإرادة والاختيار[2].
• ويتضح لنا من تلك التعريفات خصائص ثلاث للحرية بهذا المعنى.
1 - إنها صادرة عن الإرادة الإنسانية، إذًا هي نسبية، يفهمها كل شخص وَفْق إرادته، ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 22].
2 - الحرية مطلقة لا قيود عليها، فمحصّلتها أن يُترَك للإنسان تمام الاختيار، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ [القصص: 50].
3- لا يترتب عليها أي قيود أو حدود، فكل شخص يسلك ما يريده ولا جزاء عليه؛ قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].
وبالنظر في القرآن الكريم، ودواوين السنة، فلن نجد لهذا المفهوم بنصّه أو معناه أصلاً، سوى اسم الفاعل منه في قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ ﴾ [البقرة: 178]، بالإضافة إلى الأثر الذي ورد في قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه لعمرو بن العاص: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"، وقد ورد هذا المفهوم في المراجع الفقهية، ولكن يقصد بها تلك الحرية التي تعني التحرر من الرق، فهي ضد العبودية، وهو غير موجود الآن.
إذًا؛ الحرية بهذه الخصائص لا تعرف القيود ولا الحدود، حرية بلا غاية، حرية من أجل الحرية، يصير مبتغيها كحيوان انطلق من عقاله يهيج في كل الأودية ولا يعرف له وجهًا، يهيم بلا هدى وبلا دراية، ويستحسن بنا أن نُسَمِّيها باسمها المناسب لهذا المفهوم، فهي الفوضى التي لا تعرف حدودًا، ولكن لأنها فتنة فهي تسمى بغير اسمها، كما استحل الناسُ الحرير والخمر والمعازف.
ولا جرم أن أصل هذه الكلمة واستخدامها بصورتها الحديثة يرجع إلى اليهود، وإلى معتقدهم الباطل، فهم يزعمون - باطلاً - أنهم شعب الله المختار، وأن الله تعالى قد خلق الأُمَمِيين وهم حيوانات، ولكنهم في صورة بشر؛ لخدمة اليهود، وقد جاء في التلمود: "إن الأمميين هم الحمير الذين خلقهم الله؛ ليركبهم شعب الله المختار، وكلما نَفَقَ منهم حمارٌ ركبوا حمارًا آخر"، ومن هنا فإنهم يستبيحون أعراض الأممين ودماءهم، بل يَعُدُّون ذلك تقرُّبًا إلى الرب.
وإذا كان الله تعالى قد قال: ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 47] فالخطاب موجه إلى يهود موسى فقط والمعاصرين له، وإن الله تعالى رد على إبراهيم عليه السلام عندما سأله بعضَ الفضل لذريته، رد عليه تعالى: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124].
أما وصفهم لغير اليهود بالحمير، ففي حقيقة الأمر هذا الوصف يخصهم هم، "رَمَتْنِي بدائها وانسلَّتِ"، فقد قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ [الجمعة: 5].
وفي سبيل هذا المعتقد الفاسد، كوَّنوا جمعيات ومنظمات سرية عالمية تهدف إلى إفساد الأمميين، عن طريق دس السم في العسل، وتسمية الأشياء بغير مسمياتها، وعلى رأس هذه المنظمات تأتى الصهيونية والماسونية[3].
وقد قرر الله تعالى هذه الحقيقة، وأثبت هذا المعتقد وحذر منه؛ قال تعالى: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64]، وقد جاء الفعل بصيغة المضارع ليفيد الاستمرار والديمومة.
وقد استخدمت هذه المنظمات مطلب الحرية، كأداة لا غِنَى عنها لإفساد العالم؛ انطلاقًا من فكر شيطاني محض، فقد أدركوا تمامًا - مثلما أدرك الشيطان - أن الإنسان مجبول مفطور على الفضول، ونيل ما مُنِع منه، فكل ممنوع منه فهو لديه مرغوب، فقد أكل آدم وحواء من الشجرة التي مُنِعَا منها، حَذْوَ النعل بالنعل، مثلما فعل الشيطان.
فقد تبنَّوْا هذا المفهوم، وقالوا فيه كما جاء في بروتوكولاتهم،: "إن كلمة الحرية تضع كل مجتمع في صراع مع كل سلطة، حتى لو كانت سلطة الله أو الطبيعة، وحينما نغدو سادة فسوف نمحو هذه الكلمة من المعجم".
وقد روجوا لهذا المطلب بمعناه المطلق من الإباحة واللامسؤولية، للقضاء على المعتقدات والأخلاق، ووضعوا في المقابل مطلب الحرية.
وقد استغلوا ما كانت عليه أوروبا في عصورها الوسطى من جهل وظلام وقمع، وتسلُّط من قِبَل رجال الدين آنذاك، الذين سلبوا من الشعب الأوروبي كل مُقَوِّمات حريته، بل إنسانيته، باسم التفويض الإلهي، فكانت أوروبا تُربةً خصبة لتنفيذ هذا المخطط الفاسد الخبيث آنذاك، فعَمُّوا العداء والكره بين الشعب والكنيسة، ورَوَّجوا لمظاهر الطغيان الكنسي آنذاك.
وقد لعب الفكر دورًا بارزًا في هذه المؤامرة على الدين والأخلاق - سياج المجتمعات - فَرَوَّجوا لنظرية دارون الإلحادية، التي أعلن فيها أن الإنسان حيوان مفطور، ولا زيادة، وقام صراع عنيف بين دارون وبين الكنيسة، ووقفت الجماهير في صف الكنيسة في البداية، ولكن عادت فأيدت دارون بفعل اليهود، انتقامًا من الكنيسة، فارتدَّت أوروبا على أثرها ماديَّةً مُلحدةً خالصة.
فانسلخت أوروبا من النصرانية إلى المادية باحثة عن المادة والشهوة، اللتين حَرَمَتْها منهما الكنيسة التي قمعت غرائز الإنسان في سبيل الروح، فانفلت الشعب من الشيء إلى نقيضه.
ولم يقتنع اليهود بذلك، والأخلاق ما زالت قائمة، فسلطوا عالِم النفس اليهودي الماسوني الخبيث فرويد صاحب التفسير الجنسي للسلوك، الذي رَدَّ كل نشاط يقوم به الإنسان إلى الجنس، وإن الكبت الجنسي وعدم إطلاقه ينشأ عنه عقدة أوديب، ومن هذه العقدة تنشأ القيم والأخلاق، وهي عملية ضارة تنشأ عنها الاضطرابات النفسية والعصبية والعُقَد، فضلاً عن تأخير الإنتاج.
فَسَرَى التطور الحديث في أوربا على أساس مادي جنسي بحت، ولم يقتنعوا بذلك أيضًا، فما زال الدين قائمًا، وإن كان معطَّلاً، والأخلاق قائمة وإن كانت مُسِفَّة، ويفَرِّغ البعض شهواتهم الجنسية عن طريق الزواج.
فأخرجوا للعالم نظريات تدعو للإلحاد وإنكار الدين بشكل صريح لا التواء فيه، منهم "نيتشة" - لعنه الله - الذي قال: مات الإله - تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
وجاء "رُسُّو" ومِنْ بعده "سارتر"، لِيُنْكِرا وجود القيم وضرورة استبدالها ومن ثم محوها؛ لأنها مقيدة لحرية الإنسان، ومعطِّلة لإنتاجه، ومكَبِّلة لشهواته ونزواته، وجاء "دوركايم" الذي زعم أن الزواج ليس من الفطرة، وأن الأصل في البشرية كالبهائم.
وقد وقف اليهود من خلف هؤلاء وغيرهم، يُرَوِّجون لأفكارهم، ويُسَفِّهون معارضيهم، ففشت هذه الأفكار الخبيثة في المجتمع الأوروبي سريان النار في الهشيم، لأنه كان مهَيَّأً لذلك.
هذا على الجانب الفكري، أما الجانب السياسي الذي يسيطر على السلوك، فقد عملوا على إقامة الثورات ضد الحكومات التي تتمسك بـ "الدين والأخلاق"، باسم الحرية؛ فقد خرجت أول هذه الثورات في أوروبا، وهي الثورة الفرنسية على أيديهم وتحت شعاراتهم.
فقد جاء في بروتوكولاتهم: "وفي جميع جنبات الدنيا كان من شأن كلمات "حرية - عدالة - مساواة" أن اجْتُذِبت إلى صفوفنا على يد دعاتنا وعملائنا المسخَّرين، ولا يُحصيهم عَدٌّ، من الذين رفعوا رايتنا بالهتاف، وكانت هذه الكلمات هي السُّوس الذي ينخر في رفاهية الأمميين، ويقتلع الأمن والراحة من ربوعهم، ويذهب بالهدوء، ويسلبهم روح التضامن".
فجعلوا أوروبا كلها تنعق بالحرية، الحرية من الدين والأخلاق والتقاليد، حرية مطلقة لا قيد لها، وبعد أن أفسد اليهود أوروبا توجهوا إلى العالم الإسلامي، محاولين بث تلك الأفكار الخبيثة في ربوعه، فلم يكتنفها إلا عدد يسيرٌ جدًّا من عملائهم وجهلائنا، أما على الجانب السياسي فهم يقولون: "كنا نحن أول من نادى في جماهير الشعب بكلمات الحرية والعدالة والمساواة، وهي كلمات لم تزل تُرَدَّد إلى اليوم، يرددها من هم بالبَبَّغَاوات أشْبَهُ، يَنْقَضُّون على طعم الشَّرَك في كل جو وسماء، فأفسدوا على العالم رفاهيته، كما أفسدوا على الفرد حريته الحقيقية، وكانت من قبل في حرز من عبث الدهماء".
فأطلقوا الثورات في العالم الإسلامي، فانساحت في العالم الإسلامي، فانتشرت بين ربوعه، ضد عملائهم وأعوانهم بُغْيَة تقسيم العالم الإسلامي وتمزيقه، فَرَدَّ الله كيدهم في نحرهم، وأبطل خبثهم، بهذه الأمة المحفوظة بحفظ الله؛ ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
فالله تعالى تعهَّد وتكفل بحفظ دينه، فضلاً عن أن الشعوب الإسلامية لا تعاني مما كانت تعانيه أوروبا من قهر واستبداد ديني، بل على العكس تمامًا من ذلك.
فالمسلمون ينفرون بحسهم الديني والخُلُقي من الحرية أو التحرر الغربي، وينْشُدُون الحرية التي كفَلَها لهم دينهم في كل مناحي الحياة وجوانبها، بل وفي الدين نفسه؛ قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256].
وإن كانت الحرية عند الغرب مطلبًا وحقًّا من الحقوق، فإنها في الإسلام شرط من شروط التكليف، فإذا انتفت الحرية عن الفعل، وغلب عليه القمع، سقطت عن صاحبه المسؤولية، قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 173]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما: ((إن الله تجاوز لى عن أمتي الخطأَ والنسيان، وما استُكرِهوا عليه))[4].
والحرية في الإسلام تنطلق من عقيدة وفكر وسط، لا إفراط فيه ولا تفريط، فهي حرية مسؤولة؛ ((لا ضرر ولا ضرار))؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وهذه الحرية المسؤولة لا يقوم بتحديدها إنسان ضعيف تتنازعه الأهواء والميول، يترصده شيطان، فالشعوب في الإسلام ليست حقل تجارب تخضع لتطورات الفكر الإنساني الذي يتسم بالتطور وعدم الثبات طبقًا للظروف والملابسات، ومن ثَمَّ فإن الإسلام قد وضع إطارًا عامًّا لحرية الإنسان، إطارًا يتسم بالثبات والمرونة في الوقت ذاته، إطارًا وَضَعه خالق الإنسان، إطارًا يضمن صلاح الفرد والجماعة.
والحرية المسؤولة هي تلك التي يعرف بها الإنسان أين يتجه وأين يسير؟ ترفع الإنسان وتُعلي من قدره، وتميزه من حياة البهيمية التي يريدها له المفسدون في الأرض.
وتتصل الحرية المسؤولة بجوهر طبيعة الإنسان والغاية التي من أجلها خَلَقَه الله، كخليفة له في الأرض، خلقه في أحسن تقويم، ونفخ فيه من روحه، وناط عمارةَ الأرض به، وزوده بالقدرات والإمكانات التي تؤهله لأداء ذلك الدور العظيم، فبعث إليه الرُّسل، وأنزل الكتب التي تُبَيِّن له الحلال والحرام، والخير والشر، وما يحصنه من غوائل الشيطان ونزوات النفس الأمَّارة، وكَفَل له مطلق الحرية في الاختيار بين هذا وذاك؛ لأنه مسؤول عن اختياره في الآخرة أمام الله، وفي الدنيا أمام خليفة الله وظله في الأرض إذا تعدت حريته على الآخرين.
وفي النهاية نقول لأعداء البشرية ما قاله الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/65525/#ixzz2w1JjF7QG
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق