الاثنين، 17 مارس 2014

إشكالية مفهوم المساواة

إشكالية مفهوم المساواة
11-11-2012  |  سلطان البنوي
يتعامل الفكر الغربي عامة مع المفاهيم كأنها جزر متباعدة أو أفكار متفرقة لا ينظمها نسق فكري سليم، وبالتالي فإنه يتعامى عن بعض الإشكالات الناتجة عن العلاقات بين المفاهيم والأفكار




           
مقدمة:
تتفاعل المفاهيم داخل سياقات اجتماعية تلزمها بنوع معين من التفسيرات بحيث يصعب نزعها دون إلحاق تلك السياقات الاجتماعية التفسيرية معها، لأن لكل بيئة مناخها المفاهيمي، ولزرع المفاهيم داخل مجتمع ما نحتاج لعملية تبيئةٍ جذرية لتلك المفاهيم لتتناسب مع المجتمع المراد زرعها فيه، وعندما نراجع البيئة الاجتماعية لمفهوم (المساواة) نلاحظ أنه عاصر الثورة الفرنسية بالشعارات المعروفة لدى الكثير (الإخاء- الحرية- المساواة)، ولذلك فإن (المساواة) أصبحت أحد مطلقات الفكر الغربي، ونتائج الصراع التاريخي في الغرب أثناء بحثه عن مطلقات بديلة عن تلك التي حطمها، ونزع عنها قداستها.
ومن الناحية التاريخية نستطيع القول بأن "الثورة الفرنسية ألغت الامتيازات الخاصة التي كان يتمتع بها رجال الدين والنبلاء"1"، ولكن هذا لم يكن يعني سوى محاولة لإلغاء القدرة على استغلال البشر وإذلالهم، فالامتيازات يومئذ بوابة لامتلاك الحق والنفوذ، ولذلك فإن مفهوم (المساواة) لم يأخذ أبعاداً فكرية فلسفية إلا بعد ذلك بفترة زمنية مع نشوء الفلسفة الشيوعية- التي تلغي كافة الحقوق الفردية وبذلك تحقق المساواة في تصورها- أو الفلسفة الليبرالية- التي تعطي كافة الحقوق الفردية وبذلك تحقق المساواة في تصورها- وكلاهما يغضان النظر عن الاختلاف والتفاوت البشري الطبيعي أو الثقافي.
المقدمات الإفتراضية للمفهوم:
إن بناء المفاهيم في العقل يستلزم حضوراً واعياً للقواعد الداعمة لها (البنية القبلية للمفهوم)، وإشكالية مفهوم (المساواة)- الإشكالية تفترض خللاً داخلياً في بنية المفهوم - أنه يستند لعدة دعائم بنيوية مغلوطة، وأهمها؛ افتراض التماثل بين البشر، وأنهم أراضٍ ملساء ليس لها نتوءات وتضاريس تختلف من فرد لآخر في الحالة التكوينية (الطبيعية) أو الحالة الأخلاقية (الميتافيزيقية). . وبالتالي يتم بناءً على ذلك الإفتراض افتراضٌ آخر، وهو عدم وجود التراتبية الطبيعية أو الاجتماعية أو غيرها لأن البشر متماثلون في الحالة التكوينية (الطبيعية)، وبالتالي في الحالة الأخلاقية (الميتافيزيقية) فما لازم وجود نظام تراتبي للمجتمع! وهنا تم ابتكار واقع افتراضي ذهني ليس له صلة بالتكوين الاجتماعي البشري، وفرقٌ كبير بين افتراض واقع والتعامل مع حياة واقعية حقيقية، وخطورة الأمر الأول تتجلى في نوعية التشريعات والقوانين التي ستنزل بعد ذلك على هذا المجتمع المتماثل، وبالتالي تتحول التشريعات والقوانين (الحق والواجب) التي تستند على مفهوم (المساواة) كعملية تسوية حادة بين البشر، ولذلك فإن التشريع الإسلامي يدرك تماماً هذا التفاوت والتراتبية الواقعية بين البشر في الحقوق والواجبات من حيث النوع والمقدار، وبالتالي نلاحظ تنوع التشريع الإسلامي (ركن - فرض كفاية - فرض عين - سنة مؤكدة . . إلخ )
يكمن الخلل في التصور السابق في الفكر الغربي في "أن المعاني الذهنية ليست هي الحقائق الخارجية لكن توهموا أن هذه المعاني الذهنية ثابتة في الخارج"2"، فليس كل التصورات الذهنية حقائق واقعية- وهي في تصوري أحد آفات الفلسفة الغربية- ولذلك فإن بناء النظريات على فرضيات ينشئ عالماً خيالياً، ومفهوم (المساواة) كتماثل وتسوية بين البشر ليس إلا معناً ذهنياً تم تشكيل افتراضات أخرى حوله ليقوم على ساقيه، وإن أبسط قراءةٍ في تاريخ الأمم والمجتمعات، وأقل تأمل في واقع البشر يجزم بـ(أصالة التفاوت والإختلاف الطبيعي والأخلاقي) .
إن التفاوت الطبيعي أو الأخلاقي بين الأفراد حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، {. . نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} . والآية تخبر عن سنة كونية- والسنة الكونية يلزم وقوعها-، وبناءً على ذلك فالمجتمعات الإنسانية تصنع أنظمتها التراتبية بنفسها وفقا لقدرات الناس غير المتساوية (التفاوت الطبيعي)، وبالتالي فإن التفاوت أو الاختلاف الطبيعي ينشئ التفاوت أو الاختلاف الأخلاقي والاجتماعي، ولذلك فالمساواة التي تنادي بها النظريات الاجتماعية تصدق فقط في (تكافؤ الفرص) وإتاحتها لجميع الأفراد لاستثمار خيرات النظام الاجتماعي أو (حالة التقاضي) أمام القاضي،  وفي غير ذلك يستحيل خلق مساواة تكوينية أو اقتصادية أو اجتماعية بين الأفراد كما يدعي البعض .
من يطالع كتاب (خطاب في أصل التفاوت وفي أُسسه بين البشر) لجاك روسو يلاحظ بأنه يحاول التأصيل بطريقة فلسفية بأن التفاوت والاختلاف طارئ على البشر وليس أصليّاً فيهم، فهو يصطنع حالة ذهنية تجريدية يسميها بـ(حالة الطبيعة) يختفي فيها التفاوت بين البشر بل ويفترض تفرداً بشرياً ملازماً لتلك (الحالة الطبيعية) التي تسبق الاجتماع البشري، فهو يقول "الطبيعة قد عاملت الحيوان والإنسان معاملة متساوية" ويقول كذلك  "وقد أقمتُ الدليل على أن التفاوت لا يُلْحَظ في حالة الطبيعة أو يكاد، وأن تأثيره يكاد يكون معدوماً"، عندما نفحص هذا الدليل لا نكاد نجد سوى افتراضات تقوم عليها نتائج مغلوطة ! وهو (جاك روسو) في الحقيقة يُرجع التفاوت الطبيعي عامة للتفاوت الأخلاقي وطرائق التنشئة والتربية في المجتمع، وبالتالي فإن البشر متساوون ومتماثلون في الحالة الطبيعية لديه، ومن ثم تكمن الإشكالية عنده ليس في إثبات مفهوم (المساواة) كحق طبيعي، وإنما في كيفية الانتقال من (حالة الطبيعة) إلى (حالة المدنية) بطريقة سليمة خلافاً لما حصل تاريخياً، وهو موضوع كتابه الآخر (في العقد الإجتماعي)، ونجد كذلك عند جون رولز صاحب كتاب (العدالة كإنصاف) محاولة لتقرير العدالة بالطريقة ذاته، فالكتاب يحاول "التوصل إلى معايير عامة شاملة، وذلك بإجراء تجربة ذهنية مع أفراد أحرار ومتساوين، وذلك بإعادتهم إلى حالة بدائية خيالية بعيدا عن جميع المؤثرات غير الموضوعية والعاطفية بحيث يمكنهم التوصل إلى اتفاق حول مبادئ مجتمعهم، والتوفيق بين الحقوق والواجبات"4".
علاقات مفهوم المساواة:
يتعامل الفكر الغربي عامة مع المفاهيم كأنها جزر متباعدة أو أفكار متفرقة لا ينظمها نسق فكري سليم، وبالتالي فإنه يتعامى عن بعض الإشكالات الناتجة عن العلاقات بين المفاهيم والأفكار، فمن تلك العلاقات التي يتعامى عنها علاقة الحرية بمفهوم المساواة، إن كان هناك مساواة متماثلة بين البشر سواء من حيث التشريع القانوني أو من حيث الحقيقة كما يقرر الغرب، فلماذا تصنع حرية الأفراد وفقاً للتفاوت الطبيعي تفاوتاً اجتماعياً، وبالتالي تتفرع أشكال أخرى من التفاوت؟! علاقة الحرية بالمساواة تنطوي على صراع وتنافس في المجال العام، فمفهوم (الحرية) يفتح المجال الاجتماعي لتصرف الجميع، فكل شخص حسب قدراته الطبيعية يصعد أو ينزل في السُلم التراتبي للمجتمع، ووفقاً لهذا تختفي تلك (المساواة)، لأن القاعدة هي (التسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات)، والجنس البشري بينهما (التشابه).
ومن تلك المفاهيم التي ترتبط بالمساواة مفهوم (المواطنة)، وتُعتبر (المواطنة) محدد أساسي في الفكر السياسي الغربي لمفهوم (المساواة)، تشكل هذا المفهوم إبان نشوء الأمم القومية في أوربا في القرن التاسع عشر كمفهوم تأطيري للحقوق والواجبات التي تضمنها الدول لشعوبها، وبالتالي يتم التفريق بين الشعب (الأمة المواطنية) والقوميات أو الأقليات من غيرها، وهو (مفهوم المواطنة) يقصي كافة المحددات الأخرى التي تميز جماعة عن أخرى في الدولة الغربية الحديثة، فمفهوم (المساواة) يرتبط في الفلسفة السياسية بمفهوم (المواطنة)  كتسوية وتماثل بين بشر معينين، يلزم من ذلك التماثل في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الاختلاف الطبيعي أو الديني أو العرقي، ويتعامل مفهوم (المواطنة المساواتية) مع الشعب كأفراد، ولذلك نلاحظ الصراع الفكري بين (المساواة) وفكرة (التعددية الثقافية والدينية)، فـ(التعددية) تؤكد على التنوع الموجود في فضاء المجتمع، وبالتالي تجعل لكل جماعة دينية أو عرقية حقوقاً خاصة بها، وهذا يعارض مفهوم (المساواة) بين المواطنين كما تقرره الفلسفة السياسية الغربية، ووفقاً لفكرة (التعددية) تتشظى (الأمة المواطنية) لأمم كل حسب إنتمائه  {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}.
إن الخطاب القرآني يركز على مفهوم (الأخوة) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، ويلفت الانتباه على تحريم السُخرية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}، بينما يقر بالتفاوت البشري سواء الطبيعي أو الأخلاقي ليس من حيث التشريع فقط كقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}، وإنما من حيث ما هو سنة كونية لازمة للإجتماع البشري كذلك {. . وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}، فمن نظر في مفهوم (المساواة) بأبعاد تاريخية، ورؤية تأملية يدرك تماماً أنه مجرد وهم نظري ليس له واقع خارج الذهن، ومن تعمق أكثر في الفلسفة الغربية يرى مدى البؤس الذي تحتويه نظرياتها وأفكارها.
إن نقد الأسس والمقدمات التي بُني عليها مفهوم (المساواة) يجتث كل الإدعاءات التي يدعيها الخطاب التغريبي حوله، وإن إدراك العلاقات التي تربطه بغيره من المفاهيم يكشف العتمة التي تحيط بشبكة المفاهيم الغربية، لكن في الحقيقة ما زال هناك إشكالات أخرى كالنقد العقدي لمفهوم المساواة، ونقد آخر (قانوني تشريعي) له، ولعلنا نكتب عنها في مقال آخر، إذ يكفي من النقد ما بيّن الخلل، ويكفي من التنبيه ما أحاط بالمعنى، كما يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق .
  والله أعلم.
ـــــــــــــــــ
الهوامش:
"1" الثقافة والمساواة ص 27 بتصرف يسير .
"2" الرسالة الصفدية ص 453 .
"3" أصل التفاوت82، 112 .
"4" المجتمع المدني والعدالة 135 بتصرف يسير.
 
أعلى الصفحة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق