منهج المدرسة التربوية في الإصلاح المعاصر
لمحات من مناهج الإصلاح المعاصرة وأثر العلماء في توجيهها وتقويمها (7)
ثمة مدارس دعوية ركَّزت في دعوتها على الجانب التربوي، أعني: تنشئة الأتباع والمدعوين ورعايتهم في الجوانب الفكرية والخُلُقيَّة والسلوكية، ثم متابعتهم.
حيث تؤمن هذه المدارس بأن الحياة الإسلامية في المجتمع لا يمكن إعادتها إلا عن هذا الطريق، فقد أصبح الإسلام غريبًا في معظم العالم الإسلامي، واكتفى جمهور المسلمين (مع كثرتهم) على مجرد الانتماء، فلا بد إذًا من جهود مضنية وتضحيات ضخمة لإعادة هؤلاء إلى دينهم، وإعادة الحضارة الإسلامية التي كانت للمسلمين.
وإذا كان كثر من الدعاة والجماعات - من غير هذه المدرسة - لهم اهتمامات في الجوانب التربوية، إلا أن هذه المدرسة تميَّزت بهذا المنهج.
ولعل من أبرز نماذج هذه المدرسة:
1- جماعة التبليغ.
2- الجماعة الإسلامية.
3- الإخوان المسلمون.
وعلى الرغم من وجود الخلاف بين جماعة التبليغ وبين الجماعتين الأخريين، إلا أنها كلها تَشترِك في المنهج التربوي، على تبايُن في موضوع الدعوة وأساليبها ووسائلها.
(1) أما جماعة التبليغ، فقد أسَّسها الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي الحنفي الجشتي (نسبة إلى الطريقة الجشتية)، (1303 - 1364) في سهارنفور الهندية، وذلك في منتصف القرن الرابع عشر الهجري.
إحساسًا من الشيخ بغربة الدين في الهند، وحاجة الناس إلى دعوة تنطلِق وتدخل عليهم في بيوتهم ومساجدهم، وبدراسة تاريخ هذه الجماعة ومن واقعها المعروف تبرُز الأمور الآتية:
1- أن الجماعة نشأت في بيئة معيَّنة (الهند) ذات سمات خاصة، حيث الوثنية، والخرافة، والبدعة.
2- ولذلك تنوَّعت مصادرها ومنابعها الأولى، ففي الوقت الذي تأثَّرت فيه بمصادر الشريعة (القرآن والسنة)، نجدها أيضًا تأثَّرت بمصادر أخرى، من أهمها: التصوف، والأحلام والرؤى، وجماعة النور التركيَّة.
3- وقد ركَّزت الجماعة على مبادئ ستة، تحوم حولها الجماعة في دعوتها وحديثها، لا تكاد تخرج عنها، وهي:
أ- الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله).
ب- إقامة الصلوات.
جـ- العلم والذكر.
د- إكرام المسلم.
هـ- الإخلاص.
و- النفرة في سبيل الله (الخروج).
على أن مفهوم الجماعة لهذه المبادئ لا يأخذ طابَع العمق والشمول، بل من خلال نظرة لا تخلو من السطحيَّة.
4- أن الجماعة تُركِّز على الجانب العملي الصامت، دون الجانب القولي القائم على الكتابة والإعلام والمنتديات والمؤتمرات.
5- وقد أصبح للجماعة انتشار واسع وعريض في شتى الأقطار.
6- ويَنقُص أفراد الجماعة العلم الشرعي بصفة عامة[1].
(2) وأما الجماعة الإسلامية في باكستان والهند:
فقد أسَّسها الأستاذ أبو الأعلى المودودي 1360هـ، على أثر مؤتمر عُقِد في لاهور دعا إليه المودودي، ووسط ظروف للمسلمين صعبة، حيث الاستعمار الإنجليزي في الهند، وفرقة المسلمين السياسيَّة والفكريَّة، وعدم وجود قيادات علمية تقوم بحمل الدعوة والتوجيه، ولا سيما في الهند.
وبالقراءة المتأنية لحال الجماعة وتاريخها تبرز الأمور الآتية:
أولاً: حدَّدت الجماعة أهدافها بـ:
أ- دعوة الناس عامة والمسلمين خاصة أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا.
ب- وعلى كل مسلم أن يُخلص دينَه لله ويُطهِّره من النفاق وعمله من التناقض.
جـ- دعوة أهل الأرض أن يُحدِثوا انقلابًا في أصول الحكم الذي استبدَّ به مَن ليس له بأهل، وأن تنتزع الإمامة الفكرية والعملية من أيديهم.
ثانيًا: ومصادر الجماعة فيها تنوُّع:
أ- فأوُّلها الكتاب والسنة بطبيعة الحال.
ب- التأثُّر ببعض الدعوات الإصلاحية السابقة: مثل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وولي الله الدهلوي، وأحمد السرهندي.
جـ- التأثر الكبير بالشاعر والفيلسوف محمد إقبال.
د- الاجتهاد القائم على العقل.
ثالثًا: عنيت الجماعة بإنشاء المدارس والمستشفيات، كما اهتمَّت بالجانب السياسي اهتمامًا كبيرًا، وشاركت في الانتخابات في باكستان.
رابعًا: كان للأستاذ المودودي بصماته الواضحة على الجماعة فكرًا ومنهجًا وسلوكًا.
وكان من أهم سمات المودودي: التجديد الفكري، وتفسير بعض المصطلحات الشرعية، بل وبعض النصوص تفسيرًا جديدًا عصريًّا.
خامسًا: وقد أصبح للجماعة وزن كبير في شبه القارة الهندية[2].
(3) وأما الإخوان المسلمون، فهي جماعة أسَّسها الشيخ حسن بن أحمد الساعاتي البنا (1324 - 1368هـ)، في الإسماعيلية بمصر 1347هـ في ظلِّ ظروف محليَّة وعربية وعالمية حَرِجة، حيث سقوط الدولة العثمانية، وتمزُّق الأمة الإسلامية، وانتشار الطرقية الخرافية، مع فساد الحكم المحلي.
ولأن البنا قد تربَّى في أحضان والده الشيخ أحمد صاحب "الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني"، كما تربَّى على بعض مشايخ الطريقة الحصافية؛ كالشيخ عبد الوهاب الحصافي، كما أنه أيضًا تأثَّر بصفة مباشرة بالشيخين: محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، أقول: بسبب ذلك أصبحت لديه الرغبة الجامحة في الدعوة والإصلاح منذ مرحلة الطلب.
وعند تأمُّل هذه الجماعة: فكرًا ومنهجًا وتاريخًا، تبرُز الأمور الآتية:
أولاً: تنوُّع المصادر والينابيع المؤثرة في الجماعة:
1- وفي مقدمتها الكتاب والسنة بصفة ظاهرة.
2- الفكر الإسلامي على اختلاف مشاربه واتجاهاته، دون تمحيص دقيق له.
3- الفكر الصوفي في جوانب محدودة منه.
ثانيًا: لخَّص البنا أهداف الجماعة في:
أ- إصلاح الفرد.
ب- تكوين البيت المسلم.
جـ- إرشاد المجتمع.
د- تحرير الوطن من كل سلطان أجنبي (استعماري).
هـ- إصلاح الحكومة.
و- إعادة الكِيان الدولي للأمة الإسلامية.
ز- أستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام.
ثالثًا: وحقيقة دعوة الجماعة كما لخَّصها البنا:
أ- دعوة سلفيَّة: أي تدعو إلى العودة إلى الكتاب والسنة.
ب- وطريقة سنية: أي تدعو إلى العمل بالسنة.
جـ- وحقيقة صوفيَّة: بمعنى تطهير النفس والمواظبة على الذِّكر.
د- وهيئة سياسيَّة: تُطالِب بإصلاح الحكم.
هـ- ورابطة علميَّة ثقافية: تعنى بجوانب التعليم والثقافة.
و- وفكرة اجتماعية: تُعنى بأمراض المجتمع وعلاجها.
ز- وشركة اقتصادية: تهتم بالجانب الاقتصادي.
ح- وجمعية رياضية: تعنى برياضة الأجسام والتدريب على الفروسية.
رابعًا: وللجماعة مبادئ قامت عليها، من أبرزها:
أ- النظرة الشمولية للإسلام (تنظيرًا وتطبيقًا)، ربما وصل إلى حد التسطيح.
ب- الجمع بين مذهب السلف والخلف في العقيدة.
جـ- البُعد عن مواطن الخلاف.
د- إنكار البدع (نظريًّا).
هـ- البيعة.
خامسًا: قامت الجماعة وَفْق تنظيم محدد.
سادسًا: انتشرت الجماعة وأفكارها في شتى أقطار العالم، وإن لم يعترف بها في معظم تلك الأقطار[3].
تقويم المدرسة التربوية وأثر العلماء في توجيهها:
قد تكون هذه المدرسة من أكثر المدراس انتشارًا وشهرة، وقد تكون أكثرها فاعلية، الأمر الذي يجعلها مُعرَّضة للنقد والرد تارة، وللثناء والمديح تارة أخرى.
ولعل من أسباب توجيه النقد والرد ما تميَّزت به هذه المدرسة من استيعاب جماهيري حاشد، لا يكاد يجمعه إلا شحنات من العواطف الجياشة، تتحرَّك لأدنى الأسباب، وبتصرفات ساذجة، أقرب ما تكون إلى الحشود الجماهيرية في الانتخابات والمظاهرات.
وهذا الموقف في تقديري عائد إلى أمور، منها:
1- ضعْف جانب التحصيل الشرعي، الذي هو في الحقيقة طوق النجاة عند الأخطار.
2- كثرة الأتباع، مع تنوُّع في الثقافات، وتفاوت قد يكون حادًّا في التدين والخُلُق.
3- التعامل مع المُخالِف المُبتدِع بأسلوب لا يخلو من الإدهان والمجاملة.
4- أن زمام القيادة ربما توَّلاه مَن ليس له باعٌ في العلوم الشرعية، فتصدر منه تصرُّفات أو إرشادات أو فتاوى لا تَنم عن علم.
5- تزاحُم الاهتمامات وتنوُّعها - مع تَعارُضها أحيانًا، مما يتعذَّر معه التركيز على جانب من جوانب الحياة، فتتوزَّع الجهود بين مُتطلَّبات الأفراد ومتطلبات الجماعة، وربما انتهت إلى شتات.
وقد وجِّهت نصائح لهذه المدرسة من قِبل كثير من أهل العلم، نقتطِف منها ما يأتي:
1- يتحدَّث الأستاذ أبو الحسن الندوي إلى الإخوان المسلمين بعد مقتل مرشدهم حسن البنا - رحمه الله - ووقوع الفتن العاصفة، فيقول: "ولكني أعتقد أيها السادة أن الله تعالى قد أراد بهذه الدعوة خيرًا، إذ ردَّها قسرًا إلى مرحلة الدعوة الأولى؛ لتزداد هذه الدعوة نضجًا، وليزداد رجالها تربية وحُنْكة، ومبادئها رسوخًا وقوة، وأخذ بنواصي العاملين الدعاة ليفكروا في مستقبل هذه الدعوة، ويرسُموا خطَّتها، ويُحكِموا وضعها وأسلوبها، ليست مهمة الدعوة قلب نظام فقط، أو تغيير وضْع سياسي بوضع سياسي آخر، ونظام اقتصادي بنظام اقتصادي آخر، ولا نشر الثقافة والعلم، ومكافحة الأمية والجهل، أو محاربة البطالة والتعطل إلى غير ذلك مما يُقدِّم له الدعاة والمصلحون في أوربا في الشرق، وإنما هي دعوة الإسلام التي تشمَل العقيدة والأخلاق والأعمال والسياسة والعبادة والسلوك الفردي والاجتماعي، وتتناول العقل والقلب، والروح والجسم"[4].
2- وفي نظري أن من أفضل الكتب المصنَّفة في تقويم هذه الجماعة هو كتاب الأستاذ أحمد سلام الموسوم بـ "نظرات في مناهج الإخوان المسلمين، دراسة نقدية إصلاحية"، وهو جدير بالقراءة.
أما جماعة التبليغ، فقد كتب عنها الكثير، ووجِّهت إليها سِهام قوية من لدن علماء لهم غَيرة على الدين وأهله، مثل:
1- الأستاذ محمد ميان أسلم الباكستاني، في بحث قدَّمه للجامعة الإسلامية في مرحلة الطلب.
2- الشيخ الدكتور: محمد تقي الدين الهلالي في كتابه "السراج المنير في تنبيه جماعة التبليغ على أخطائهم".
3- الأستاذ سعد الحصين: وكان أحد أعضاء الجماعة ثم فارَقها، فكتب حول الجماعة كتابات عديدة مقوِّمًا ومُحذِّرًا.
ومن أبرز ما كتب "رأي آخر في جماعة التبليغ"، قدَّمه إلى ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر المعقودة في البحرين 1405هـ.
4- العلامة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري - رحمه الله - في كتابه "القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ".
5- الشيخ حسين جابر في كتابه "الطريق إلى جماعة المسلمين"[5].
وأخيرًا فيما يتعلَّق بالجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، فقد وجّهت إليها هي الثالثة التوجيهات والنصائح من لدن كثير من الغيورين.
وربما خص بالنصيحة الأستاذ المؤسِّس للجماعة المودودي[6].
[1] يُراجَع: الطريق إلى جماعة المسلمين؛ حسين جابر (ص: 295) فما بعدها، وحقيقة الدعوة إلى الله تعالى، وما اختصت به جزيرة العرب، سعد الحصين ص: 62 فما بعدها، والموسوعة الميسَّرة في الأديان والمذاهب المعاصرة؛ إصدار الندوة العالميَّة للشباب الإسلامي ص: 115 فما بعدها.
[2] يراجع: الإمام المودودي، حياته ودعوته وجهاده، للأستاذ: خليل الحامدي، وأبو الأعلى المودودي - فكره ودعوته؛ للدكتور سمير عبدالحميد، والموسوعة الحركية (2: 221) فما بعدها، والموسوعة الميسَّرة (ص: 173) فما بعدها.
[3] يراجع: مؤلفات الأستاذ حسن البنا، وبخاصة مجموعة الرسائل، وكتاب الموسوعة الحركية (2: 159) فما بعدها، والطريق إلى جماعة المسلمين (ص: 315) فما بعدها، والموسوعة الميسرة (ص: 23) فما بعدها.
[4] أريد أن أتحدَّث إلى الإخوان؛ للندوي (ص: 14، 15).
[5] انظر: (ص: 308 - 313).
[6] ينظر: منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل؛ للشيخ الدكتور ربيع المدخلي ص 138 - 152.
ومفهوم الحاكميَّة في الفكر الإسلامي الحديث والمتصورات المخالفة؛ للدكتور عبدالله بن عبدالعزيز الزايدي (ص: 183 - 251)، مطبوع على الآلة الكاتبة (رسالة دكتوراه).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Web/triqi/0/56952/#ixzz2w2IGobQ7
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق