متتالية "فيبوناتشي":
مع أجواء حرب الخليج، عانينا زماناً صعباً ربما امتد لعقد كامل من تيار يدّعي السلفية وكان النقد شعاره ودثاره، تكوّن التيار بسرعة، وانتقد الصحوة في كل شيء وأي شيء؛ حاملاً لواء الجرح دون التعديل، وأُعطي أفراده نفوذاً لم يقصّروا في استغلاله، وفَتحت لهم المنابر أبوابها في الصحافة والإعلام بل حتى بعض المنابر الشرعية، ودخل في التيار كل عابر رأى فيه تفريغاً لشحنات قديمة وحرقاً لمراحل متعثرة، وأعلن أهله "أنهم قادمون"، وسلِم منهم كل تيار في بلاد الله إلا الصحوة، ثم انشق التيار على نفسه، وتنافر أصحاب الأمس، وأصبحت أرى بعيني متتالية فيبوناتشي الرياضية تصل إلى رقم فلكي في الانقسام والتشظي ثم في الانكماش العظيم، وكان منهم من عاد إلى الحق الذي غفل عنه، وكان منهم من أكمل الطريق إلى نهايته، وهي نتيجة طبيعية لتيار رفع شعاراته ولم يمارس عملياً سوى نقد الصحوة والمنهج السلفي الصحيح.
خفت تيار الأمس على أعتاب 22 / 6 / 1422 هـ، وانطلقت أصوات كل شيء لفترة، وظهر التيار الجديد وهو يزعم أنه يحمل مشروعاً ورؤية وتجديداً، ثم مارس النقد كحق طبيعي لبداية تيار يريد تمييز نفسه بصواب أو خطأ، لكنه كان نقداً محصوراً بالصحوة مبتوراً عن غيرها، وكان نقداً منفلتاً أطلقه أصحابه على كل شيء في الصحوة حتى صار كل نتاج التنوير هو النقد "وإثارة الأسئلة"، واشتهر التيار في الإعلام والصحافة، وتأقلم بسرعة مع الظهور الإعلامي فأعطاهم ما يريدونه من شدة النقد للقريب والرفق بالبعيد، والتحق بالتيار كل عابر، وانشق التيار وتنافر حتى لا يكادون يجمعون على أولوية عملية تطبيقية غير نقد الصحوة السلفية، ثم خفت التيار قبل أن يظهر وغاب قبل أن يسجل حضوره.
وها قد مر على الصحوة السلفية عقدان، عقد لمرجئة السلفية وعقد لتيار التنوير الإصلاحي، والذي أجزم به أن الصحوة السلفية قد ازدادت قوة وخبرة وانتشاراً، وأن دون اللحاق بها وتفكيكها خرط القتاد، وأجزم أيضاً أن الصحوة هي أكثر حركة قرأت النقد وتواضعت له واستفادت منه ولو كان من الخصوم والأعداء، وأن تيارات النقد والخصومة هي أشد التيارات على المخالف وأضيقها عطناً بالنصح والتصحيح.
الإصلاح.. بالعبثية:
إن من يدعي "التيارية" ويبشر بأنه "قادم" إلى ميدان النهضة بالمخرج والسبيل القويم ثم لا يكلف نفسه أن يقدم مشروعاً أو حجر أساس لمشروع.. فهؤلاء كيف يستحقون أن يسموا أنفسهم "تياراً" ولا مشروع لهم، تسألهم وتسألهم وتسألهم في كل موقف عن مشروعهم "البنائي" ماهي لبناته وعلى ماذا يقوم؟ ويرتد الصوت حسيراً كل مرة، تتغير الإجابات وتتبدل بين قائل أن مشروعه هو نقد الصحوة السلفية ثم فقط لا غير ذلك، هكذا ينتهي المشروع عنده كقائمٍ للخطبة أرتج عليه، وبين قائل بأنه لا يشترط أن تحمل مشروعاً فالأهم هو أن تطرح الأسئلة، وبين مرتقٍ إلى ثلاث الشعارات العريضة: إعادة صياغة الثوابت والتاريخ والمنتج الحضاري الغربي، ثم لا يشرح على متن هذه الكلمات شيئاً وربما لا يريد أن يشرح، ولك أن تبتسم وأنت تقرأ عن مشروع هذه إجابات تياره، لكنني للحق أحزن على عقولٍ فذة آلت إلى أهداف كهذه.
ونقد التيارات والأوضاع والرؤى مهما تضخم وتمدد لا ولن يصلح أن يكون مشروع أمة ولا تياراً في الامة، فالنقد نشاط سلبي أولاً ثم مشروع أفرادٍ ثانياً، فللفرد مثلي ومثل كل باحث أو مركز بحث أن يتخصص في النقد والتوجيه والاستقراء وبيان الخلل، لكن ذلك كله لا يصنع تياراً ولا يؤسس لنهضة، ومن المستحيل تبسيط جهود الإصلاح إلى هذه الدرجة، إنك ترى حركات الإصلاح عبر تاريخ الأمة والمهابة تغشاك أمام هؤلاء الأعلام وهم يرفعون بناء الأمة برؤى ساطعة وشمولية عجيبة في زمن اليد الواحدة الضعيفة، ثم لما تمدد الوعي وظهرت بوادر الثمار جاء من يهوي بالسقف من جديد إلى درجات قد تجاوزها الوعي القيادي والشعبي، وجاء من يؤسس للسلبية الفكرية، وأقبل من يبعث الشعارات التي حاربتها الأمة حين حملها المستعمر، وهاهي الشعارات نفسها بيننا اليوم لكنها تُحمل من الأبناء لا من الأعداء.
عابرو السبيل:
يتبرأ التنوير من عابري سبيله نحو العلمانية والفضاءات الأخر، ويهرب من أن يكون ذلك لخطأ في التيار، ويرفض الوصف بأنه قنطرة للعلمانية، ويطالب أصحابُه بأن لا يحاسبوا بأخطاء غيرهم، وكأن "غيرهم" لم يكونوا "منهم"لحظة ما، ولكننا سنتغاضى عن ذلك، وسنتغاضى عن حقيقة أن نسبة العابرين كانت كبيرة وظاهرة وليست نادرة لا حكم لها، سنتغاضى عن ذلك كله لنسأل: هؤلاء الذين انتقلوا من الإسلامي إلى التنويري ثم غادروه إلى تيار العلمنة ؛ هل خالفوا قواعد منهجية وضوابط فكرية تنويرية حين انتقلوا للعلمانية، ما هو المنهج والفكر الذي كان يتواصى عليه التنويريون ليعصموا تيارهم من الانحراف نحو العلمانية وغيرها، ما هي الأطروحات التي طرحها التنويريون في الواقع وخالفهم من تركهم فيها، هذه هي الحقيقة التي يهرب منها التنويري: أن الذين عبروه لم يخالفوا شيئاً من منهجه الذي كان يطرحه من نقد السلفي والشرعي، وتقدير أي فكر يحمل الجديد ولو كان مخالفاً للشريعة، والمطالبة بحريات تسمح بالحدبث ولو في الثوابت، والمطالبة بإعادة قراءة التاريخ دون طرح للمعايير ولا تحرير للموقف من الإجماع ونتاج علماء الأمة والموقف من القرون المفضلة بل الموقف من النص قبل ذلك، وكل ذلك لم يخالفهم فيه كل من تركهم سوى أنه غير الاسم الذي انضوى تحته، وبما أنهم لا مشروع لديهم غير إثارة الأسئلة وتفكيك البنية السلفية فهذا ما يقوم به من تركهم أيضاً، وهو موطن الإشكال الذي يهابون منه ومن تدارسه.
الحرية الطبقية:
وأنت لا تكاد تفهم رجلاً ينادي بحرية المفكر- ولو قال ما يخالف النص أو الإجماع أو ينقض الثوابت بحجة رفع سقف الحرية وتقبل الآخر - ثم يقوم ولا يقعد لأجل فتوى المفتي ولو كان أهل العلم يجمعون على أنه أهل للفتوى وقبلة في العلم، حتى إذا حاججته بشعاراته أعلن أنه لا يعترض على المفتي ولكن على أسلوب النقد في الفتوى، التيار بهذا تتوقع منه وهذا جوابه أنه كان مثالاً لتأصيل الأسلوب العلمي في نقد المخالف، لكنك بعد هذا التوقع تصطدم بما تقرأ وتسمع من أساليب النقد الصارخة والفجور في الخصومة والتعميمات والتصنيفات وإطلاق الألقاب والنعوتات، وهذا كله دليل على أن مراد التيار هو الحرب على الفتوى والمفتين وخنق كلمة العلماء لصالح سماء المفكر المفتوح، وحصار على الشريعة لصالح سلطة العقل الموهوم..
عوداً إلى النخب:
مرت السنون طوالاً على تيارات نخبوية جابت فيها كل ساحة أدبية وثقافية وإعلامية، وأفنت كل نخبة أختها قبل أن يستيقظ الجميع على حقيقة النخبوية، أنها وهم لا يملك مقومات التمدد الشعبي، ولا يمكن أن يكوّن أرضية جماهيرية، وكان المتابع لهؤلاء يكاد يغالبه الضحك وهو يعجب من قوة نفوذهم وقلة المرتادين، نعم قال الشافعي أن لكل نافقة سوق، لكن السوق في أبسط تعريفاته لم يحدث لكثير منهم.
بعض تيارات اليوم تعود إلى نفس المطب بطرق شتى، وأرى أن تيار التنوير مثال شبه تام لهذا المرض، على تناقض أصلي فيه، إذ هو يزعم أنه يحمل هم المجتمع، لكنه حتى الآن لم ينجح في تحرير هذه الدعوى وإثبات وقوفه الفعلي مع مجتمعه، وتجد في التيار مرض تعدد الرؤوس، فليس المهم أن تتبع صاحب الحق، بل المهم أن تختلف، فالاختلاف أولوية مقدمة على الحق والقول الصحيح، والنخب في بلادنا تتكون من المختلفين لا من الثابتين الجامدين، ولذلك تجد مثلاً عالماً كالشيخ البراك ليس أهم من مفكر كالجابري، لأن الجابري كان مختلفاً – قد يجمع باطله في مجلد ضخم – أما البراك فقد أفنى عمره في قول الحق – أي لا جديد عنده -.
ومن أمراض التيار النخبوية نبرة التعالي على الجميع، والازدراء للتيارات الشعبية، والترفع عن الكتابة لعموم الناس باللغة السهلة القريبة، مما كون قائمة من اتهامات التنوير لمخالفيه مبنية أصلاً على هذا الخلل الفكري، فتجد التيار يسمي تبسيط الفكر سذاجة، والخطاب العام خطاب وعظ – والوعظ ليس بشيء عندهم طبعاً -، وتذكير الناس بالثوابت خطاب استهلاكي.
ولكن مع كل هذا، فما لا أفهمه هو ان يدعي تيار التنوير أنه يقف مع مجتمعه وهموم مجتمعه، ثم يعادي أكبر تيار مجتمعي نشأ من المجتمع وعاش منه وفيه وإليه، وبعد ذلك يقول التنويريون أن تياراً يعيش بين الناس لا يدافع عن همومهم! ويريدوننا أن نصدق!.
إياي أعني.. واسمعي يا جارة!!
ينادي تيار التنوير بأولويات للنهضة يزعم اختلافها عن أولويات التيار السلفي، ولكنه يكرس جهوده المتوالية ليس للسعي باتجاه هذه الأولويات بل لمطالبة السلفيين بها، وهي معادلة لا حل لها في العالم الحقيقي، والغريب أن بعضهم يعلم بهذا التناقض، أحد أفاضلهم انتقد ذات مرة في مسألة الثوابت فقال: لا تطالبني بثوابتك! وقلت في نفسي: وأنت ما الذي تطالب به السلفيين وتنتقدهم عليه منذ الأزل: أليست ثوابتك وأولوياتك؟ ألم تقل أنك تختلف معهم في سلم الأولويات ولذلك تنتقدهم. ثم ما الذي فعلته أنت وغيرك لأجل أولوياتك غير النقد والاختلاف.
الإعلام مخطئ أيضاً:
ربما كان خطأً غير مقصود وربما كان طلباً للإثارة، المهم أن الإعلام في الفترة الماضية قد أقحم أسماء إصلاحية في التنوير وهي بعيدة عنه، ولا شك أن هذا الإقحام يضر بقيمة هذه الأسماء البارزة ويخدم التنويريين لا شك بإضفاء تميز في الطرح لم يصلوا إليه حتى الآن.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/22423/#ixzz2w7CYuVD0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق