مدخل:
إنَّ الحرية أثمنُ ما يمتلكه الإنسان في هذه الحياة؛ ولذا فإنَّ الإنسان في مختلف الأزمنة التي مرَّتْ به كان لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار حتى يَنال حريتَه.
ومِن هنا كفل الإسلام الحرية لجميع المواطنين، وجعَلَها جزءًا من النظام الإلهي، الذي أُسِّست عليه حياةُ البشر، وأصبح ملازمًا لهذه الحياة في مختلف مراحلها.
وسوف نتناول فيما يلي أهمَّ ميادين الحُريات التي كفلها الإسلام للناس كافَّةً:
أولاً: حرية الاعتقاد:
لقدْ قرَّر الإسلام حرية الاعتقاد، وكفَلها في أوسع نِطاق وأكمل صورة لم تعهدها الإنسانية قديمًا وحديثًا، ويبدو هذا واضحًا من المبدأ الذي رسَمه القرآن الكريم، وبيَّنته السُّنة المطهرة لاعتناق العقيدة الإسلامية.
وإذا أردْنا أن نستعرض الآيات التي تشكِّل معنى حرية العقيدة، فإنَّنا نجد أنها تعلن عدمَ الإكراه في الدِّين، وتُعطي الناس الحرية في اعتناقِ العقيدة التي يريدون أن يَلْقَوا ربهم عليها ما دام قد تبيَّن الرشد منَ الغَيّ.
وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم ﴾ [البقرة: 256]، ففي هذه الآية الكريمة "يتجلَّى تكريمُ الله للإنسان، واحترامُ إرادته وفِكره ومشاعره، وترْك أمره لنفسه فيما يختصُّ بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعةَ عمله وحساب نفسه، وهذه هي أخصُّ خصائص التحرُّر الإنساني، التحرر الذي تُنكِره على الإنسان في القرْن العشرين مذاهب متعسِّفة، ونُظم مذلَّة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرَّمه الله باختياره لعقيدته أن يَنطوي ضميرُه على تصوُّر للحياة ونُظمها غير ما تُمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهيَّة، وما تُمليه عليه بعدَ ذلك بقوانينها وأوضاعها، فإمَّا أن يعتنق مذهب الدولة هذا - وهو يَحْرِمه من الإيمان بإله للكون يصرِّف هذا الكون - وإما أن يتعرَّض للموت بشتَّى الوسائل والأسباب"[1].
ومما يوضِّح رغبةَ الإسلام العميقة في أن يكون الإيمانُ بعيدًا عن الإكراه، ما جاء في سببِ نزول هذه الآية، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: "نزلَتْ هذه الآية في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصيني، كان له ابنان نصرانيَّان، وكان رجلاً مسلمًا فقال للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ألاَ استكرههما فإنَّهما قد أبيَا إلا النصرانية، فأنزل الله ﴿ لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ ﴾[2].
ويبيِّن الله - تبارك وتعالى - في آيةٍ أخرى قُدْرته على إجبار البشَر على الإيمان، وأنَّه سبحانه لو أراد أن يجعَل الناس جميعًا مؤمنين لفَعَل، ولكنَّه لم يفعلْ؛ ليحقِّقَ الابتلاء والاختبار في هذه الدنيا، قال - تعالى -: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه -: "كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حريصًا على إيمانِ جميع الناس، فأخْبَره الله تعالى أنَّه لا يؤمن إلا مَن سبقتْ له السعاة في الذِّكْر الأوَّل، ولا يضل إلا مَن سبقَتْ له الشقاوة في الذِّكر الأول"[3].
وواقِع الإسلام التاريخي حافلٌ بترْك الناس أحرارًا في عقائدهم دون إجبار على عقيدةٍ معيَّنة، ودون إلزام بعقيدة، "فالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أقرَّ اليهود على يهوديتهم في المدينة واليمن[4]، والنصارى على نصرانيتهم في بلاد العرَب وعلى الأخصِّ في نجران[5]، واقتدى به أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - وقد أمَرَ أسامة بن زيد بتَرْك الناس أحرارًا في عقائدهم، وأمَرَه ألا يقتل الرهبان، وأن يتركهم أحرارًا في دِيارهم وصوامعهم، وكذلك فعَل الفاروقُ عمر مع الفُرْس، ومِن ذلك ما أعطاه لأهل إلياء[6] مِن الأمان على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبانهم، وأنهم لا يُضطهدون بسبب نصرانيتهم، واستمرَّ المسلمون كذلك في جميعِ عهودهم في إعطاء الشعوب في ظلِّ الحكم الإسلامي حريةَ الاعتقاد، ومِن مراجعة بسيطة لجميع التشريعات في كُتب الفقه الإسلامي، نجد تقريرَ هذه الحرية من غير نكير، ومِن مراجعة واقع الأمر في عهود الدولة الأُموية والعباسيَّة، والفاطمية والأيوبية، والمماليك والعثمانية، يتضح تقريرُ هذه الحريَّة في أجْلَى مظاهرها"[7].
وقد شَهِد بهذه الحرية غيرُ المسلمين، والفضْلُ ما شهِدتْ به الأعداءُ.
يقول المستشرق الإنجليزى توماس أرنولد:
"إنَّ الفتح الإسلامي لمصرَ جلَب إلى القبط حياةً تقوم على الحرية الدينيَّة التي لم يَنْعموا بها قبل ذلك، وقد ترَكهم عمرو بن العاص أحرارًا على أن يدفعوا الجزية، وكفَل لهم الحريةَ في إقامة شعائرهم الدِّينية، وخلَّصهم بذلك مِن هذا التدخُّلِ المستمر الذي أنُّوا من عِبئه الثقيل في ظلِّ الحكم الروماني، ولم يضع عمرو يدَه على شيء من ممتلكات الكنائس، ولم يرتكبْ عملاً من أعمال السَّلْب والنهب"[8].
فأين هذه الحرية - التي حقَّقها الإسلامُ لأتباعه ومخالفيه على السواء - مِن موقف الإسبان مع المسلمين؟!حيث غَلبوهم على الأندلس، فقد خيَّروهم بين ترْك الأندلس، أو الدخول في دِين النصرانية أو القتْل، فقضوا على ملايين المسلمين، ومنعوا أن يُذكَر اسم الله في دولةٍ كاملة عاش المسلمون فيها ثمانيةَ قرون"[9].
ولسْنَا في حاجة لأن نفتحَ ملفَّ الكنيسة، أو نتقصَّى أنباء مواكب الإحراق التي كانتْ تُساق زُمَرًا بحُجَّة الإلحاد، وما فعلتْه الكنيسة في إسبانيا وبريطانيا وفرنسا بالفئات المخالِفة، ولكن قدْ يستحق الاهتمام أن نُشير إلى ما أصدرتْه الكنيسة في إسبانيا من قرارات غاية في القسوة، سواء في ذلك ضدَّ اليهود أو ضدَّ المسلمين أو ضد البروتستانت".
ففي 30 مارس 1492م أصدرت الكنيسة بإسبانيا قرارًا بأنَّ كلَّ يهودي لم يَقبلِ النصرانية في أي سِنٍّ كان وعلى أي حال، يجب أن يَترك إسبانيا قبل شهر يوليو من العام نفسه، ومَن رجع إلى هذه البلاد عُوقِب بالقتْل، وفي فبراير سنة 1502م نُشِر الأمر بطرْد أعداء الله المغاربة (المسلمين) إذا لم يَقْبلوا التعميد[10]، وشرط على مَن ترَك منهم إسبانيا ألاَّ يذهب في طريق يؤدِّي إلى بلاد إسلامية.
ولمَّا ظهرت طائفة البروتستانت جعلَتِ الكنيسة الكاثوليكية عقوبةَ الإعدام قانونًا يُحكَم به على كلِّ مَن يخالف معتقده للطائفة"[11].
وإذا حريةُ الاعتقاد الديني قد انتصرتْ على الكنيسة في الأيَّام الأخيرة: فإنَّه لَمِن المؤسف أنها انهزمتْ أمام المذاهب "الشمولية والشيوعيَّة والفاشية"، التي كانت أكثرَ شرًّا من الكنيسة؛ حيث استخدمتْ كل وسائل العِلم الحديث؛ لتكميمِ المعارضين بوسائلَ يدخل فيها ما سُمِّي (غسيل المخ)"[12].
ومما سبق يَتَبَيَّن:
1- أنَّ حرية الاعتقاد لا تتحقَّق إلا في ظلِّ نظام الإسلام الشامل.
2- أنَّ المساس بحرية العقيدة يؤدِّي تلقائيًّا إلى المساس بالحريات الأخرى، وهذا أمرٌ ملموس ومشهود، فمـا أن تحرم حرية العقيدة حتى يتطرَّق ذلك إلى حرية الفِكر وحرية الرأي، ثم إلى حرية المعارضة السياسيَّة، وتكون النتيجةُ التحكُّمَ في المجتمع بأَسْره، وإخضاعه لدكتاتورية شامِلة.
3- أنَّ الإيمان يزدهِر في البيئة الحُرَّة وحدها.
وبعدَ هذا البيان الموجَز لما جاء في القرآن وسِيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأحاديثه الشريفة مِن أنَّ الإسلام يأبى أن يكون اعتناقُه وليدَ إكراه أو إجبار، بل لا بدَّ مِن توافُر الحرية التامة في اعتناقه، قد يبدو في الأُفق تساؤلٌ لطالما ردَّده الحاقدون، وهو: إذا كان الإسلامُ قد تبنَّى مبدأ الحرية الدِّينية في اعتناقه، فما سببُ المعارك التي خاضَها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمسلمون مِن بعده؟ أليستْ هذه المعارك دليلاً على أنَّ الإسلام قدِ انتشر بالسيف؟ وأنَّه كان يتَّخذ الإكراهَ وسيلةً لاعتناقه؟ وإلا فما الغايةُ مِن المعارك إذا لم يكن مقصودها حملَ الناس على الإسلام؟
وللرد على ذلك أقول:
لا شكَّ أن الإسلام قد خاض المعاركَ الكثيرة ضدَّ أعداء الإسلام، ولكن لم يكن الدافع لهذه المعارك ما يُردِّده المرجفون مِن أعداء الإسلام مِن أن الدافع وراء هذه المعارك هو إكراهُ الناس وحمْلُهم على اعتناق الإسلام.
ونظرة صادقة في القرآن الكريم يتبيَّن صحة ذلك، فالناظر في القرآن الكريم يرى أنَّ الدوافع التي من أجلها شُرِع القتال بعيدة كلَّ البعد عن إكراه أحد على العقيدة، وهذه الدوافع تتمثل فيما يلي:
1- ردّ العدوان عن المسلمين بعد أن تفْشل كافة المحاولات السِّلمية التي تُبذل في هذا السبيل؛ قال - تعالى -: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج: 39 - 40].
وقال - تعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
فهذه الآيات تُبيِّن أن المسلمين ما بدؤوا أحدًا بالقتال، وإنما كانوا يحاربون المعتدين الذين بدؤوهم بالقتال، وأخرجوهم من ديارهم، فهل يجوز أن يقال بعد ذلك: إنَّ الإسلام قد أَكْرَهَ الناس على الإيمان به؛ لأنَّ المسلمين يدافعون عن أنفسهم؟!
2- تأمين حرية الاعتقاد الدِّيني عند المؤمنين؛ قال - تعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193].
وقدْ بيَّن الله في آيةٍ أخرى أنَّ الفتنة في الدِّين أشدُّ أثرًا على النفس من القتْل؛ قال - تعالى -: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 191].
فهذه الآية تنصُّ على أنَّ الإنسان مأمورٌ بالدفاع عن نفسه إنِ اعتدى عليها أحد، ومِن باب أَوْلى أن يدافع عن عقيدته ودِينه؛ لأن إزهاق النفس يترتَّب عليه نهايةُ الحياة فقط، وربما يكون بعدَ ذلك - في الآخرة - في حياة أبدية ينعَم فيها إنْ كان مِن الصالحين، أمَّا انسلاخ المسلِم عن دِينه، فيترتَّب عليه خسارة في الدنيا والآخرة.
3- حماية الدعوة الإسلامية حتى تصلَ إلى الناس جميعًا، ويتحدَّد موقفهم منها تحديدًا ظاهرًا؛ وذلك لأنَّ الإسلام رسالةٌ شاملة تضمَّنت كل ما فيه مِن صلاح المجتمع في كلِّ ناحية، سواء كان منها ما يتعلَّق بالأفراد والمجتمعات؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28]، ومِن هنا كان لا بدَّ أن تزول كلُّ عقبة مِن طريق الدعوة تمنَع مِن إبلاغها، ولا يتحقَّق ذلك إلا عن طريقِ الجهاد.
4- إغاثة المظلومين مِن المؤمنين أينما كانوا، وحينما حلوا في أيَّة بُقعة مِن بقاع الأرض، وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72].
5- تأديب ناكثي العهود، وكذلك تأديب الفِئة الباغية، حتى تعودَ إلى أمر الله؛ يقول الله - تعالى - عن ناكثي العهود: ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 12].
وقال - سبحانه وتعالى - عنِ الفِئة الباغية: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 9].
تلك هي أهمُّ الدوافع التي مِن أجلها شُرِع الجهاد في الإسلام، والتي تُبيِّن أن الجهاد لم يكن حربًا شعواءَ تدمِّر الأخضر واليابس، وتسفك الدماء؛ لغرَض الانتقام وحمْل الناس على الإسلام، ولكن الجهاد الإسلامي يَلْفظ هذا كلَّه ولا يبيح شيئًا مِن ذلك، وإنَّما كان للأغراض السابقة[13].
وثمَّة شبهة أخرى أثارها أعداءُ الإسلام حول حرية الاعتقاد في الإسلام وهي: إذا كان الإسلام قد جاء بحُرية الاعتقاد، أليس في حُكْمه على المرتدِّ بالقتل مصادرةٌ لحرية الاعتقاد؟! أليس فيه إكراهٌ على الإسلام؟!
وللردِّ على هذه الشبهة أقول:
مِن المعلوم في الشريعة الإسلاميَّة أنَّ عقوبة الارتداد[14] عن الإسلام هي القتْل، وهذا الحُكم ثابت بالسُّنة الصحيحة عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد رَوى البخاريُّ بسنده عن عبدالله بن مسعود أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يحِلُّ دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسولُ الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّب الزاني، والمفارق لدِينه التارك للجماعة))[15].
وعن عِكرمةَ - رضي الله عنه - قال: "أتَى عليٌّ - رضي الله عنه - بزنادقة فأحْرَقهم، فبلغ ذلك ابنَ عبَّاس، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرِّقْهم لنهي رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولَقتلْتُهم لقول رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن بدَّلَ دِينه فاقتلوه))"[16].
ولكن ليس معنَى قتْل المرتد أنَّ الإسلام قد جاء مناهضًا لحريةِ الاعتقاد، وإنما كان هذا الحُكم مِن الإسلام على المرتدِّ لحِكم منها:
1- "أنَّ الإسلام منهجٌ كامِل للحياة، وليس في عقيدته ولا شريعته ما يُصادِم فِطرةَ الإنسان أو يقِف حائلاً دون الوصول إلى كمالِه المادي والأدبي، ومَن دخل فيه عرَف حقيقته، وذاق حلاوتَه، فإذا خرَج منه وارتدَّ عنه بعدَ دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقِع خارجًا على الحقِّ والمنطق، ومتنكرًا للدليل والبرهان، وحائدًا عن العقل السليم والفِطرة المستقيمة، والإنسان حين يصِل إلى هذا المستوى يكون قد ارتدَّ إلى أقصى درجات الانْحِطاط، ووصَل إلى الغايةِ في الانْحِدار والهبوط، ومِثل هذا الإنسان لا يَنبغي المحافظة على حياته، ولا الحِرْص على بقائه؛ لأنَّ حياته ليست لها غايةٌ كريمة، ولا مَقْصد نبيل"[17].
2- أنَّ جريمة الارتداد "تقَع ضدَّ الدين الإسلامي الذي يقوم عليه النظامُ الاجتماعي، فالتساهُل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعةِ هذا النِّظام، ومن ثَمَّ عُوقِب عليها بأشدِّ العقوبات؛ حمايةً للنِّظام الاجتماعي مِن ناحية، ومنعًا للجريمة مِن ناحية أخرى، ولا شكَّ أنَّ عقوبة القتْل أكبرُ على صرْف الناس عن الجريمة حيث تُولِّد غالبًا في نفس الإنسان مِن العوامل الصارِفة عنِ الجريمة ما يَكْبِت العواملَ الدافعة إليها.
والناظرُ في واقعِ الدول التي تَدين بغير الإسلام، يجد أنَّها "تحمي نظامها الاجتماعي بأشدِّ العقوبات التي تفرِضها على مَن يخرج على هذا النظام، أو يحاول هدمَه أو إضعافه، وأوَّل العقوبات التي تفرضها القوانين الوضعية لحماية النِّظام الاجتماعي هي عقوبةُ الإعدام - أي: القتْل - فالقوانين الوضعية اليوم تُعاقب على الإخلال بالنِّظام الاجتماعي بنفس العقوبة التي وضعتْها الشريعة لحماية النظام الاجتماعي الإسلامي"[18].
ومن هنا يتبيَّن:
1- أنَّ نظامَ الإسلام لم يكن بِدعًا من الأنظمة في تقريرِ عقوبة القتْل للمرتد، وإنَّما جاء منطقيًّا في نفسه، ومتلاقيًا مع غيره مِن الأنظمة.
2- أنَّ عقوبة المرتدِّ ليستْ هضمًا لحق الإنسان في حريةِ الاعتقاد، وإنَّما لحفظِ النظام الاجتماعي.
وبالله التوفيق.
وسوف نكمل الحديثَ عن باقي أنواع الحريات التي كفلها الإسلام للناس كافة في مقالات أخرى - إنْ شاء الله.
[1] "في ظلال القرآن"، سيد قطب (1/291).
[2] "تفسير القرآن العظيم"، لابن كثير (1/310).
[3] "الجامع لأحكام القرآن"، القرطبى (5 /3224).
[4] ومِن ذلك ما كتبه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لليهود فيما عُرِف بالوثيقة، قال ابن إسحاق : "وكتب رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادَع فيه يهودَ، وعاهدهم وأقرَّهم على دِينهم وأموالهم، واشترَط عليهم وشرَط لهم …. إلى أن قال: وإنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإنَّ يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم، وللمسلمين دِينهم، مواليهم وأنفسهم إلا مَن ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفْسه وأهل بيته، وإنَّ ليهود بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم، وبني الأوس وبني ثَعلبة مثلَ ما ليهود بني عوف"؛ "البداية والنهاية"، ابن كثير (2/224).
[5] ذكَر الحافظ ابن كثير: "أنَّ الأسقُفَ أبا الحارث أتَى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومعه السيد والعاقب ووجوه قومِه، فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل عليه، وكتب للأسقف هذا الكتاب ولأساقفة نجران بعدَه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، مِن محمَّد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران وكهنتهم ورُهبانهم، وكل ما تحت أيديهم مِن قليل أو كثير، جوار الله ورسوله، لا يُغَيَّر أسقفٌّ مِن أسقفته، ولا راهب مِن رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق مِن حقوقهم ولا سلطانهم، ولا مما كانوا عليه مِن ذلك، جوار الله ورسوله أبدًا، ما أصْلحوا ونَصَحوا ما عليهم، غير مبتلين بظُلم ولا ظالمين"؛ "البداية والنهاية"، ابن كثير (3/50).
[6] يراجع مبحث الحقوق الاجتماعية.
[7] "المجتمع المتكافل في الإسلام"، عبدالعزيز الخياط (ص: 72 ).
[8] "الدعوة إلى الإسلام"، سير توماس أرنولد (ص: 123)، ترجمة د. حسن إبراهيم حسن، د. عبد المجيد عابدين ، ط مكتبة النهضة المصرية - الثالثة 1970م.
[9] "معالم الثقافة الإسلامية"، د. عبدالكريم زيدان (ص: 60).
[10] التعميد: هو مِن شعائر النصارى، ويقصدون به غمسَ الجسم أو جزْء منه في الماء أو رشّه، وبعضهم يكون ذلك عندَه بالتغطيس ثلاثَ مرَّات، ويقوم به الكاهن باسم الأب والابن والروح القُدس، ويزعمون أنَّ ذلك يطهر الطفل وينشأ طاهرًا مبرَّأً من الخطايا، وهذا مِن شِركهم وعقائدهم الفاسدة، ويقال: إن التعميد كان موجودًا في اليهودية قبل النصرانية، وحكَوْا أنَّ يحيى بن زكريا - عليهما السلام - كان يعمد الناس في نهر الأردن، ويُروى أنه قام بتَعْميد المسيح عيسى - عليه السلام؛ ولذلك سموه يوحنَّا المعمدان.
[11] "الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية"، الإمام محمد عبده (ص: 14)، نقلاً من كتاب "الإسلام"، د. أحمد شلبي (ص: 184) بتصرف يسير .
[12] "حرية الاعتقاد في الإسلام"، جمال البنا (ص: 66) بدون بيانات.
[13] للمزيد في ذلك، يراجع "بيان للناس"، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (1/280)، وما بعدها، ط جامعة الأزهر، ولمحات في الدعوة والدعاة إلى الإسلام (ص: 219 - 233)، د. مشرح على أحمد علي - مطبعة الشروق 1420هـ - 2000م.
[14] معنى الردَّة: ترْك الدين الإسلامي والخروج عليه بعدَ اعتناقه، فلا تكون الردة إلا من مسلِم، ولا نريد هنا الدخول في نقاش مطوَّل حول هذا الموضوع، فقد وفاه الفقهاء حقَّه مِن بيان لاستتابة المرتد، وحكمه، ولكن نريد التنبيه إلى ما يقتضيه المقامُ مِن إزالة هذه الشُّبهة.
[15] أخرَجه البخاري في كتاب الديات باب قوله : "إنَّ النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف …." (12/241) ح (6878) "فتح الباري".
[16] جزء مِن حديث أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدِّين، باب حكم المرتد والمرتدة (12/324) ح (6922) "فتح الباري بشرح صحيح البخاري".
[17] فقه السنة، السيد سابق (2/606، 607).
[18] "التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي"، عبدالقادر عودة (1/662).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/29600/#ixzz2w1pQpx3b
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق